الوطن
د. محمود خليل
السبيل (10)
«عقلة»!.. كائن صغير نحيل.. عشرون عاماً مضت منذ ميلاده، نما جسمه فيها ببطء، حتى أصبح عقلة كبيرة!.. لم يطلق أحد هذا الاسم عليه تندراً، وإنما كان اسمه هكذا.. «عقلة»!.. تخرج فى مدرسة التجارة، وحصل على شهادة الدبلوم، لم يجد وظيفة بعد التخرج فارتضى أن يعمل صبياً فى مقهى السبيل. كان فى البداية يتعثر فى مشيته وهو يحمل الطلبات للزبائن، أما الآن فقد أصبحت «العقلة» تجيد الحركة، وتستطيع حمل كافة الطلبات «من الإبرة حتى الصاروخ» كما كان يردد بفخر. وكان «فهمى» أحد زبائنه الدائمين فى شراء قطع الحشيش التى يسهر فى تدخينها حتى الصباح.

- «فهمى»: هل ترى يا «عقلة» ما أراه؟!.

- «عقلة»: نعم!.. البنت حنيفة بنت عم حنفى!.. سبحان من يخرج العجمية من قدرة الفول يا أستاذ فهمى!.

- «فهمى» (ضاحكاً): ويخلق ما لا تعلمون.. الله أعلم كيف كانت القدرة الأم فى شبابها وماذا فعل بها الفول فى كبرها؟!.. الله يسامحه عم حنفى ويسامح قبله قدرة الفول!.. يا أخى الجرى وراء القوت فى الشوارع يقتل الإنسان.. يدمر روحه وعقله وجسمه!.. يقتل إحساسه بالحياة.. سؤال يحيرنى: ما المتعة التى ينالها عم حنفى وأمثاله فى السبيل وخارجه، فى الحياة؟!. يبيت هو وأسرته الليل فى تدميس الفول ويقضون النهار فى البيع؟ هل يكسبون.. وأين ينفقون المال الذى يكسبون؟!.

- «عقلة»: ربنا الأعلم.. عارف يا أستاذ فهمى سنوات طويلة مضت منذ أن رأيت القدرة وزوجها لأول مرة، وحتى الآن لا أذكر أنى رأيت أحدهما يضحك!.

- «فهمى»: يكفى أن منظرهما يُضحك الناس!.

- «عقلة»: ربنا «بيحلى» لكل إنسان زاده.

- «فهمى» (وهو فى حالة شرود): لكن «حنيفة» شىء آخر!.. منظرها يثير البهجة وليس الضحك!.. يثير الخيال!.. آه بنت القدرة!.. ماذا يكون شكلها لو تمددت ولبست مثلما يلبس بنات الأكابر.. آه لو تمددت إلى جوارى على السرير بدلاً من الشيخ طارق!.

- «عقلة»: بسيطة.. ما زال سعر الفول رخيصاً!.

- «فهمى»: لا الفول بالمجان يا غبى!.. إنه طعام الشعب الطيب.. ثم إن مرتبى كله أصرفه على المعصية إياها!.. هذه المعصية تحتاج إلى تخطيط من نوع آخر!.

- «عقلة»: طريقك أخضر يا أستاذ فهمى!.

- «فهمى»: لا إننى أحبه أحمر!.. اللون الأحمر ينير خيالى أكثر.. سأقضى الليلة بخيالى معها!.. المهم هات الواجب!.

كثيراً ما أعمل «فهمى» عقله فى محاولة لفهم الحياة، فى كل مرة كان يطرح على نفسه السؤال الغامض: لماذا نعيش؟. لم يكن يجد إلا إجابة واحدة.. الهروب منه.. فقمة العقل فى الحياة ألا تتوقف للتفكير فيها.. ثمة شىء واحد فى هذه الحياة جدير بالتفكير، أن يعيش الإنسان طالما تيسر له العيش، أن يستمتع بما تطوله يداه، كبر أو صغر، عظم أو حقر.. من العقل أن يعيش الإنسان وقته وظرفه، ويرضى بما يمنحه الوقت والظرف.. لا يدرى «فهمى» بالضبط ممن تعلم هذه الفلسفة للحياة.. أحياناً ما كان يسأل نفسه: (هل تعلمتها من أبى؟.. ربما.. ولكن كيف؟.. لو كان أبى صاحب هذه الفلسفة لتعلمها «مختار» و«طارق».. ربما كانت أمخاخهما «ضلمة»!).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف