الوطن
أمانى هولة
بنما.. مزبلة أخرى للتاريخ
قارئى العزيز، مَن منا لا يعرف شيخ المجاهدين وتاجهم.. وأسد الصحراء وفارسها الذى احتضنته دروبها لسنوات طويلة أظلته وحمته بعتاده البسيط أمام جيوش الأعداء الجرارة.. فصال فيها وجال وأتقن فنون القتال حتى طعن السن ولم يطعن الحلم.. إنه ذلك اليتيم الذى ألحقه عمه بمعهد تعليم الشريعة والفقه فاختار له القدر دوراً آخر ليكون إلهاما للحياة وسوطاً يلهب ظهر الطغاة، وكما كان وجوده.. كان رحيله دليلاً وكلماته دستوراً قاد بلاده للخلاص.

«نحن ننتصر أو نموت ولكن لا نستسلم.. هذه ليست النهاية فعلى الغزاة محاربة أجيال مقبلة أما أنا فسأعيش أطول من شانقى».. وقد صدق الشيخ العظيم.. فهل تذكر اسم القائد العسكرى الإيطالى الذى أسر عمر المختار.. أو ذلك القاضى الهمام الذى حكم بإعدامه بعد أن رفض طواعية أن يختار حياته مقابل الاعتراف بسيادة المحتل على بلاده.

■ وتلك الزهرة العذراء المقبلة من مزارع أورليان ذات التسعة عشر ربيعاً جان دارك التى أعدمت حرقاً بتهمة الهرطقة والسحر، بعد أن قادت على حداثة عمرها جيشاً به لواءات وقواد ضد المستعمر الإنجليزى وأبلت بلاءً حسناً.. وكالعادة منذ بدء الخليقة حدثت الخيانة وأمسك بها الإنجليز.. ونفذوا فيها حكمهم فدخلت مصحوبة بضمائرهم التى ألقوها معها فى نفس المحرقة.. ليعاد لها اعتبارها بعد 25 عاماً بأمر من البابا كاليستوس الثالث.. ويعلن القاضى الذى لا نعرفه إلا بها اعتذاراً تأخر كثيراً.. وقد رحل الجسد وبقيت الفكرة.

■ هل تعرف اسم من أطلق رصاصة الغدر التى حملت عار إزهاق روح المناضل والطبيب والكاتب المتمرد دائماً، الباحث عن معارك الحرية فى كل بقاع الأرض، تشى جيفارا، بتوقيع الـCIA أو حتى يعلق بذاكرتك اسم رئيس الولايات المتحدة الذى يحمل عهده هذا الإرث الوضيع.. لكن من منا لا يعرف «جيفارا».. من منا لم تكن صورته معلقة على جدار ذكرياته.. حجرته.. قلادة فى يده أو صورة احتضنها يوماً وهو يهتف بحماس.. منادياً بالعدل والحق.. فى رحلة التكوين والبحث عن الهوية.

ربما استطاعت رصاصة أن تقتل الجسد، ولكنها خلدت الأسطورة ليصبح أيقونة الحرية.. ويرثيه أبويا أحمد فؤاد نجم بأجمل الكلمات: جيفارا مات.. آخر خبر فى الراديوهات.. وفى الكنايس والجوامع والحوارى والبارات.. عينى عليه ساعة القضا من غير رفاق تودعه.. يطلع أنينه للفضا.. يزعق ولا مين يسمعه.. يمكن صرخ من الألم.. من لسعة النار فى الحشا.. يمكن ضحك أو ابتسم أو انتشى.يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع.. لأجل الجياع.. يمكن وصية للى حاضنين القضية بالصراع.. صور كتير ملو الخيال وألف مليون احتمال.. لكن أكيد ولا جدال.. جيفارا مات موتة رجال.

وهكذا لا يتوقف التاريخ وحكاياته عن الإفراط فى تعليمنا.. لأقرأ من بين السطور.. حكمة الوجود.. فكل الانتصارات الظالمة الجامحة بلحظات الانتشاء هى انتصار الجبناء لحقدهم من الأنقياء.. هى هزيمة متسترة.. كما المعصية أولها حلو ولا يدوم منها إلا المرار والندم.. كهاوية عالية لا يصل إليها أحد إلا للوقوع إلى ما هو أسوأ من العدم أن يصبح وصمة بلا اسم ولا ملامح، فقط عمل مشين يحتقر التاريخ حتى أحرف هجائه ليظلوا أشباحاً تافهة.. شياطين ينصب لها فى كل ذكرى لرمى الجمرات هامشاً.. وقد فتح لنا التاريخ دفاتره وحمل ريشته ومداداً بألوان الحياة والموت.. يسجل صفحات نصنعها الآن.. فتأتى تسريبات وثائق بنما لتمتلئ سطور كثيرة بعار جديد.. لا يبرره فقر أو احتياج.. بل (طفاسة) حد التخمة غير المنطقية التى لن تهلكها أعمار أجيال.. ليكتفوا بهوامش العار بينما كل الفرص كانت متاحة ليسجلوا أسماءهم بأحرف من نور بحكم عادل، شهادة حق، كلمة صدق لكنهم اكتفوا بمتعة المعصية.. ليذهبوا إلى حيث يستحقون.. حيث متسع للكثيرين.. إنها مزبلة التاريخ.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف