البديل
عبد الفتاح ماضى
خدعوك فقالوا لم تكن هناك ثورة
هناك اتجاه يتنامى في أوساط بعض الدوائر الرسمية والبحثية في الغرب يروج لمقولات لا أساس لها لتحقيق أهداف معينة أو لتبرير سياسات مدمرة تجاه المنطقة.

المقولة الأهم هي أن المنطقة العربية لم تشهد ثورات ديمقراطية ولم تعرف أي عمليات تحول ديمقراطي، ويرتبط بهذه المقولة/ المغالطة عدد من النتائج/ المغالطات الأخرى، منها أن المنطقة تمثل الاستثناء ولا يمكن لها أن تشهد عمليات انتقال ديمقراطي، وأن شعوب المنطقة لا يصلح معها إلا الحكم المطلق.

تتردد هذه المقولات بشكل مستمر في ورش العمل والندوات التي تعقد في مراكز البحوث الأمريكية، وتظهر في عدد من المقالات والتحليلات الصحفية. ومن المقالات التي تصب في هذا الإتجاه مقال نشر بصحيفة واشنطن بوست في يناير الماضي وتمت ترجمته بالعربية ونشرته عدة مواقع. والعنوان الأصلي للمقال هو “كيف كان الجيش المصري يفكر بعد الثورة؟”

بعد خمس سنوات من اندلاع ثورة يناير يحاول هذا المقال وغيره الترويج بأن الحديث عن أن المنطقة شهدت “ثورات مدنية” حديث “تقليدي” وغير دقيق لأنه لا يفهم السياسة المصرية ودور الجيش فيها. ويكتب صاحب المقال المشار له قائلا: “الرواية التقليدية حول انتفاضة مدنية أعقبها تحول ديمقراطي مرتبك وانتهاء الأمر إلى انقلاب عسكري تتسم بشكل رئيسي بعدم فهم السياسة المصرية… وأن الجيش، وليست الإحتجاجات الشعبية، هو من عزل مبارك في 11 فبراير.”

وبغض النظر عن أن عنوان المقال ذاته يُظهر التناقض الأول، فالعنوان يحتوي على كلمة “الثورة” بينما الفقرات السابقة تنكر حدوثها أصلا! فإن معظم المقال عن الجيش وأدوات سيطرته في السياسة مع التركيز على سيطرته على قطاع المعلومات.

لكن وفي وسط هذه المعلومات المعروفة ودور السيطرة على المعلومات في هيمنة الجيش، يروج الكاتب لمغالطات أخرى، منها أن نصف المصريين صوتوا لمرشح الجيش، وهو ما يعتبره الكاتب مؤشرا لشعبية الجيش أمام مرشحي التيار الإسلامي تحديدا. أو بعبارات الكاتب: “تثبت صناديق الانتخابات بشكل متسق أن الجيش هو القوة السياسية الأكثر شعبية ونيلا للثقة في مصر وبفارق كبير، وأن ما يقرب من نصف المصريين صوتوا بحرية لمرشح لمجرد اعتقادهم بأنه مرشح الجيش…” كما جاء بالمقال أن تفضيل العديد من المصريين “جنرال قوات جوية سابق على سياسي إسلامي يعكس كيف يوازن المصريون بين المرشحين”

فيما يلي ثلاث ملاحظات سريعة.

أولا:

لا تتمثل خطورة هذه المقولات في أنها لا تقدم فقط رواية مختلفة تماما للواقع، وإنما أيضا في محاولتها شرعنة ممارسات بعيدة كل البعد عن الحقيقة كمسألة الانتخابات الرئاسية التي تمت في يونيو 2014 والتي صورها المقال على أنها اختبار شعبي حقيقي. بينما الواقع هو أنه بحلول تلك الانتخابات كان تحالف يونيو قد تصدع وكانت الشعبية التي صنعها الإعلام لمرشح الجيش قد تراجعت تماما. وقد أثبتت نسبة المشاركة في الانتخابات هذا الأمر. وقد تكرر الأمر في انتخابات البرلمان.

هذا ناهيك عن أن القوانين التي تنظم هذه الانتخابات تمت بإرداة سياسية واحدة ودون أدنى نقاش عام، وأن الانتخابات البرلمانية بقوانينها وقوائمها تمت هندستها على يد أجهزة المخابرات وكانت خالية تماما من أي تنافس حقيقي. فلا أعرف عن أي إنتخابات وعن أي إتساق يتحدث الكاتب؟

ثانيا:

هذه المقولات تحاول طمس حقيقة الثورة بالحديث عن دور الجيش السياسي والترويج لهذا الدور على أنه أبدي. لكن أليس من الصواب طرح أسئلة مثل ما أوجه التعارض بين قيام ثورة شعبية وبين نفوذ الجيش؟ هل من غير الممكن أن تقوم ثورة في دولة يتمتع فيها الجيش بنفوذ قوي؟ هل سيطرة الجيش أبدية وحتمية؟ ولماذا لا تكون الثورة هي التي دفعت الجيش دفعا إلى الضغط على مبارك للتنحي؟ ألم يُبهر احتشاد الملايين في الميادين المصرية شعوب المنطقة بل وإمتد الى الداخل الأمريكي ذاته فظهرت حركة رفض في قلب الرأسمالية الأمريكية في نيويورك ومدن أخرى؟ ألم تتسابق الدوائر الرسمية والبحثية في دراسة وفهم الفاعلين الجدد من حركات اجتماعية شبابية وأحزاب سلفية وغيرها بإعتبار أن المنطقة على أعتاب عهد جديد؟

إن مصر شهدت ثورة شعبية سلمية كبرى وشهدت عملية تحول ديمقراطي انتهت بالفشل ولا يمكن طمس هاتين الحقيقتين. إن تعثر ثورة يناير وإجهاضها علي يد خصومها في 2013 لا ينفي قيام الثورة ذاتها، وإنما على العكس يثبت قيامها ويثبت خطورتها على خصومها المحليين والإقليميين والدوليين، ويفسر أيضا تمويل محاربة الثورة بمليارات من الدولارات الخليجية، وبفريق من الإعلاميين والمثقفين وعمليات غسيل مخ وتضليل مكثفة، وبسلسلة من الأحكام المسيسة، وبتنسيق مع أطراف دولية أيضا كما سنشير.

لا نسمع شيئا اليوم في الغرب عن الجزء الخاص بخصوم الثورة وأخطاء القوى التي أدارت عملية التحول الديمقراطي، إلا بالإنحياز ضد طرف واحد، وهو في الأغلب التيارات الاحتجاجية الشبابية التي يتم انتقادها على أساس أنها عانت من غياب التنظيم والبرامج السياسية، وأيضا التيار الإسلامي المعتدل، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، استنادا إلى سياسة غربية صارت تنظر له على أنه غير ديمقراطي، وغير سلمي، وليس بينه وبين تيارات العنف كداعش والقاعدة إلا فروقات طفيفة.

لا حتميات في السياسة، وهناك مقدمات أدت إلى نتائج. خارطة الطريق التي وضعها المجلس العسكري وأخطاء الإخوان وبقية القوى السياسية الإسلامية والمدنية وإنقساماتها أدت إلى فتح المجال أمام خصوم الثورة في الداخل والخارج لإختراقها وتعميق الانقسامات ثم الانقضاض عليها.

وبالتالي لم يكن إجهاض الثورة حتميا مهما تعاظمت التحديات ومهما تكالب عليها الخصوم. وإذا أدركت القوى التي قامت بالثورة حجم الإرث الأسود لنظام مبارك، وطبيعة التغيير عن طريق الثورات والإحتجاجات ومتطلبات نجاحه، وطبيعة التحديات الخارجية، وإذا استمعوا إلى تحذيرات الكثيرين لما نجح خصوم الثورة.

أما تصوير الأمر على أن لا ثورة قامت ولا تحولا ديمقراطيا بدأ فلا هدف له إلا الترويج لروايات خصوم الثورة فقط وتبرير العودة إلى ما قبل يناير وتطبيع المنطقة والعالم مع الانتهاكات الجسيمة الحالية لحقوق الإنسان.

ثالثا:

تحدث المقال عن الجيش وكأن في مصر حكومة عسكرية يهمها في المقام الأول مصالحها المؤسسية، وهذا أمر يجافي الحقيقة من عدة وجوه.

فقد تجاهل أولا العقود الأربعة الماضية، وتجاهل علاقة الجيش بأمريكا وتلقيه معظم المعونة الأمريكية المقدمة لمصر مقابل إخراجها من الصراع العربي الصهيوني منذ نحو أربعين عاما.

كما تجاهل الكثير من التصريحات التي جاءت على لسان السيسي ذاته من أن كل التحركات التي قام بها قبل وبعد 30 يونيو كانت بعلم وبالتنسيق مع أمريكا. وهناك أيضا تصريحات أحمد شفيق عن دوره في مواجهة الإخوان من دبي وبالتنسيق مع السفارة الأمريكية ومراكز بحوث، وهناك تقارير وتحليلات مختلفة نشرت بالغرب تؤكد أن البنتاغون والسفيرة الأمريكية كانت على علم بتحركات وزير الدفاع المصري ضد الإخوان منذ مارس 2013. هذا بالطبع ناهيك عن الحملات الإعلامية ودور أجهزة المخابرات في الإعداد لتظاهرات يونيو وتعبئة الناس ضد الرئيس المنتخب وعدم التعاون معه (كما اعترف أحد وكلاء جهاز المخابرات وتم سجنه بسبب تصريحاته) واستغلال أخطاءه الكارثية في إجهاض الثورة بدلا من تصحيح المسار الديمقراطي بطرق دستورية وبدون التمكين لقوى الدولة العميقة وضرب قوى الثورة.

وتجاهل الكاتب أيضا حقيقة النظام القائم، فالدولة البوليسية تتجاوز الحكومة العسكرية عندما تتحكم الأجهزة الأمنية في الجيش ذاته وفي بقية مؤسسات الدولة وتوظفها لخدمة مصالح ضيقة دون التقيد ولو شكليا بأي قانون أو أخلاق، وترتكب من الانتهاكات الجسيمة ما تصفه المنظمات الحقوقية الدولية بأنها ترقى لمستوى الجرائم ضد الإنسانية. وللأسف بعض الدوائر الرسمية والبحثية الغربية، كما بعض القوى السياسية والمثقفين والأكاديميين في الداخل، تمارس الإزدواجية في النظر لهذه الانتهاكات، إذ تدافع عن من ينتمي للتيارات المدنية بينما تركت عشرات الالاف من المعتقلين من الإسلاميين ومن شباب الثورة ومئات الحالات الموثقة من التعذيب والإختفاء القسري والأحكام المسيسة بلا إدانة حقيقية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف