أكان لابد لمبارك أن يتمادى في عناده بقضايا الرأي العام، تحت الشعار الساذج «الشعب مش هيمشّي كلامه عليا»؟، أكان لابد أن يصر حبيب العادلي على حماية مُخبرَين قتلا «خالد سعيد» ضاربًا بغضب الناس واحتجاجهم وتضامنهم عرض الحائط؟ نوبات العِناد والصلف والتفاهة المفرطة تلك التي أودت بحياة نظام حكم بأكمله، وألقت برموزه بين أسوار السجون وفي مزابل التاريخ بين أتفه وأحط أنواع الفسدة.
فليس كُل الفاسدين سواء، هناك الفاسد الذي لم يأخذ الفساد أيدولوجيا تحميه، ويُخلص لها إلى الحد الذي يجعله يحمي فساده، بكُل ما أوتي من قوّة، ويعلن تأييده ودعمه له أمام جحافل الجماهير، متحديًا قائلًا: «خليهم يتسلوا»، حتى وجدت الجماهير سلوتها في الميادين، يحاصرون تلك العقول الجوفاء والقلوب الحجريّة، حتى رحلوا عن كراسيهم في «زفّة بلدي» غير مأسوف عليهم.
والغريب في الأمر هو أن ذلك الصمود العجيب غير المُبرر أمام أمواج الاحتجاج الهادرة، أصبح منهجًا في مجالات كثيرة، فقد ترك لنا مبارك بداخل كل مصلحة وشركة وجريدة ومؤسسة مُباركًا صغيرًا، على استعداد أن يضحي بحياته في سبيل حماية بعض التفاهات والسقطات اللقيطة، التي يخجل الطفل من تحمّل مسؤوليتها أمام والديه، فلدينا هذا الموظف الذي تنحصر مهمته السامية في إخراج الختم من مكتبه وتزيين أوراق المواطنين به، والذي قد يتحمل الإهانة وغضب الناس، وأحيانًا الضرب والخصم والعقاب، في سبيل تأخير المواطنين وابتزازهم وتعطيل مصالحهم، ذلك الهدف الذي وهب الموظّف ذاته له، والذي يعتبر أنه يتقاضى أجره في مقابله، بدلًا من إنجاز المصالح والطلبات.
ولدينا أيضًا ذلك الوزير الذي يخصص من وقته وجهده قدرًا كبيرًا، ليخرج لوسائل الإعلام لينفي أي شيء سلبي ويلوّح يمينًا ويسارًا، ويسب ويلعن في كل من تسوّل له نفسه أن يدّعي وجود أي مشكلة في وزارته، وكأنه يحمل حقيبة وزاريّة في الجنّة، بلا تحديات ولا مسؤوليات، وأن الذين يعملون في وزارته هم حفنة من الملائكة!
وعلى ذلك النمط والنهج، أصبح لدينا عدد لا نهائي من الذين تاهت مساعيهم وبوصلتهم في الحياة، ووجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها يجلسون على مكاتب لا يعلمون مسؤوليتهم عليها، ولا يعلمون سبب وجودهم في هذا المكان، وكأنهم اختُطِفوا من قِبَل كائنات فضائية أتت بهم في هذا المكان، لينكروا هذا ويكذّبوا ذاك ويهاجموا تلك، حتّى أخذ الأمر شكلًا هيستيريًّا، ولو سرنا على هذا النحو سنجد بعد ذلك رسائل مسجّلة بأصوات الوزراء والمسؤولين الكبار، تسب تُخوّن أوتوماتيكيًّا كُل من يتظلّم أن يسأل عن حقّه أو حق الآخرين في أي شيء في البلد.
صرّح رئيس مصلحة السجون منذ أيام بأن السجون في مصر أصبحت بمثابة مزارات سياحيّة، وأضاف بأن المساجين أصبحوا لا يريدون مغادرة السجون من فرط تعلّقهم بالمعاملة الحسنة التي وجدوها بداخلها، وقد كان هذا التصريح المبدع من ذاك الرجل الموهوب، هو أحد مظاهر الإبداع في ظاهرة «المقاوحة» الأوتوماتيكيّة التي نتحدث عنها، فالرجل هنا لم يغضب ولم يهاجم من يتحدثون عن التعذيب والحبس التعسفي دون تهمة محددة أو الاحتجاز خارج إطار القانون، الرجل لم يتطرّق إلى هؤلاء ولم يكتف بإنكار الحوادث محل الذِكر كزملائه التقليديين، بل امتد الأمر لديه إلى إنكاره وجود الشكاوى من أساسها، وبدأ في وصف عالمه الموازي الذي رسمته موهبته، ليخلق لدينا مدرسة جديدة في إدارة الأزمة وهي مدرسة «الخيال الشارد»، ليرد علينا نحن الذين نتهم الحكومة بمحاربة الخيال، بأن الحكومة لديها خيال يفوق خيال ناجي وخيال محفوظ ذات نفسه.
وتعجّبت كثيرًا حينما خرجت والدة الشهيد الإيطالي «جوليو رجيني» بعبارتها الموجعة، بأنها رأت على وجه ابنها كل شرور العالم، بأن سيادة اللواء مجدي عبد الغفّار، وزير الداخلية، لم يرد عليها نافيًا وجود شرور بالعالم، متّهمًا إياها بمحاولة تشويه سُمعة العالم والتآمر عليه.