«الشعب المصري متدين بطبعه، الإسلام الوسطي المصري الجميل، أخلاق المصريين العريقة».. عبارات نرددها دائما للتدليل على عظمة هذا الشعب، وبالرغم من دلالاتها الظاهرة، إلا أنها تبدو عنوانا كاذبا لشعب تخلى فى معظمه – إلا ما رحم ربك- عن جل قيم الدين الأصلية، بما ضمن له مكانا مستحقا فى القاع في جميع المناحي.
قديما قال الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت*** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ياترى أين ذهبنا؟، كل مشهد فى حياتنا اليومية يفضح هشاشة القشرة الأخلاقية التي ادعى هذا المجتمع طويلا أنها السياج الحامي لوجوده، ظلت النظم السياسية بشكل ممنهج تتوسل بإفساد التعليم والثقافة والإعلام، فضلا عن استلاب الأزهر وتوظيفه سياسيا على مدى عقود فى خدمة توجهات كل نظام سياسى، حتى أصبح مسخا تتلاعب به وبشيوخه السلطة التى لم تتحسب لخطر إسقاط هيبته، بما خلف خروجه من الوعي الجمعي وترك ساحة الدعوة بخطابه الوسطي، الذى ظل لألف عام على ما اعتراه من ضعف علمي، قادرا على اجتذاب ولاء الناس وترك قلوبهم وعقولهم مشرعة في مواجهته.
خلَّف سقوط الأزهر بخطابه بروز خطابات جديدة لما نستطيع أن نسميها التيارات الحركية الإسلامية، بلافتاتها المعروفة سلفية أو إخوانية أو جهادية، التي اختطفت وعي شرائح معتبرة انفصلت عن الشعور الوطني واتجه وعيها نحو دولة إسلامية بديلة، تمهد الطريق لدولة الخلافة التى هي في صورة أخرى لخلافة داعش، أصبحنا أمام ثلاث نسخ رئيسة توزع معتقدات الناس، الأولى هى إسلام شعبى يحتفي بالشعائر والطقوس متنكرا لجوهرها ومقصودها فى إصلاح الباطن والظاهر، فلم تكن الشعائر أبدا مقصودة لذاتها فى شريعة الإسلام، لذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه رُب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، وربما قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب، هذا التعب والنصب لم يقف عند جوارح الإنسان أو جسده بل امتدت آثاره إلى تعب ونصب حقيقي أظل واقع الناس من جشع ولدد فى الخصومة، وفساد في الطباع جعل كثيرا من الناس يمارسون ألوانا متبانية من العزلة، فهذا لايرد على تحية جاره في المصعد قاطعا الطريق عليه أن يتعارفا فيدس أنفه فى حياته فيفسدها بطمع أو حسد، وهذا يؤذي جاره بانتظام ولا يردعه تسامي الجار أو صبره الجميل، وهؤلاء من يسكنون عمارة واحدة يمرون على أحد السكان وهو ينظف هو وأولاده مدخل العمارة وحديقتها دون إلقاء التحية أو عرض المساعدة، حالة هروب جماعي حتى داخل البيت الواحد من كل رادع أخلاقي، تحول الجميع إلى أعضاء عاملين فى جمعية أصدقاء الجنيه، الذي احتدم السعار جريا خلفه وراء كل باب ونسى الجميع شيئا اسمه الحلال والحرام، فضلا عن القانون الذي منحته الأنظمة المتعاقبة إجازة مفتوحة.
إن أي شخص لازالت تحكمه فى حياته وسلوكه مسحة من دين أو خلق، يعاني أشد المعاناة من الحياة في هذا المجتمع، الذي أضحى كل شخص فيه مشغولا بنفسه، ذاهلا عن مجتمعه كارها له أو متوجسا أو خائفا، أو منعزلا عنه رغبة فى السلامة أو رهبة من الأذى الذي يلاحقه فى كل مشهد من مشاهد حياته اليومية.
يؤذيني جدا أن أبتسم فى وجه المارة فينظرون لي بتوجس، كما لو كانوا يحدثون أنفسهم بحديث تفضحه عيونهم يقول هل هو نصاب أم لص؟، فى كل الدنيا الأصل فى الناس البراءة وفى ديننا أيضا، لكن من قال إن الدين أو الأخلاق لازالت تحكم حياتنا أو سلوكنا، هل يعتقد النظام أن باستطاعته أن ينجز أي شىء أو يتجاوب معه أحد برعاية هذا التردي الأخلاقى أو حتى الصمت عليه، بإهمال التربية والتعليم والثقافة والإصرار على امتهان الأزهر بحرمانه من الاستقلال المالي والفني والدفع فى إصلاحه، بتعاون بين نبهائه مع مفكري الأمة الغيورين على دينها ومستقبلها.
أتصور أن النظام بهذا السلوك المتخبط لن يدعمه سوى اللصوص والفسدة، وهؤلاء مادة فساد لا عمران، والفساد مرتعه وخيم.
هل يقود المجتمع وطلائعه الصادقة ثورة حقيقية لإصلاح أخلاق الناس رحمة بأنفسهم أولا، ثم بوطنهم ثانية ثم بحق الأجيال القادمة أن تجد سفينة صالحة للانطلاق فى المستقبل الذي يجب أن يشغلنا جميعا، صدقونى لم يعد بالإمكان أن نحتمل الحياة فى مجتمع بلا أخلاق.