عمرو حسنى
حكاية شعبية من وقائع رسمية
إقطاعية شاسعة مترامية الأطراف يعيش فيها، ويزرع أرضها آلاف الفلاحين البسطاء. يديرها حكمدار يعمل تحت يده مئات الموظفين ومئات الخفراء المسلحين. ظروف العمل فيها سيئة ومن الصعب احتمالها فى الصيف أو فى الشتاء. فلاحوها المعدمون يحصلون على لقمة الخبز التى تصلب طولهم بطلوع الروح مهما تنوعت المحاصيل التى ترتوى بعرق سواعدهم، ومهما اختلفت سياسات زراعة الإقطاعية من عام لآخر. الموظفون يكثر بينهم الإنتهازيون واللصوص صغاراً وكباراً، وتتقاطع فى إداراتهم شبكات القرابة والمحسوبية والمصالح. الخفراء وشيوخهم القادرين فئة مميزة تزداد رواتبها وسطوتها وانتهاكاتها كل طلعة شمس. تجاوزاتهم تتخطى الإهانات والإتاوات والضرب والتحرش بالنساء وتصل إلى القتل فى بعض الأحيان. من حقهم توقيف المشتبه بهم، والعبث فى متعلقاتهم، والتحقيق معهم، بل وإصدار الأحكام الملفقة وتنفيذ العقوبات على تعساء الحظ بلا تردد فى موقع الحدث. تراكمت الأمثال فى تراث الإقطاعية الشفاهى وتنوعت من "حاميها حراميها" إلى "الخفراء يتحكمون ولا يحمون". لا يذكر أحد من العجائز حكاية واحدة تؤكد أن الخير قد فاض فى زمن سعيد قديم، رغم الوعود التى تقطعها لهم الإدارات المتعاقبة التى تؤكد لهم دائماً أن الرخاء آت فى زمن سعيد قادم وسيعم على الجميع. وعود كزبدة الأحلام التى تسيح وتفسد وتتصاعد رائحتها الكريهة تحت لفحة شمس النهار. يعرف الجميع أن الفلاحين وحدهم دائماً ما يدفعون الثمن، ويتكبدون من لقمتهم وعافيتهم تسديد المديونيات التى يسمعون طوال الوقت إنها تتراكم كنتيجة لكسلهم الذى يؤدى إلى تردى الأحوال وقلة المحاصيل التى يحملونها على ظهورهم ويكدسونها فى صوامع الإقطاعية. يدفعون الثمن عادة بزيادة ساعات العمل، وبالخصم من مستحقاتهم القليلة التى يحصلون عليها كأنها منحة من الحكمدارية. بتعاقب الإدارات يدور الصراع فى الإقطاعية على النفوذ بين كبار الموظفين وشيوخ الخفر، علانية أو فى الخفاء بالتواطؤ مع شيوخ المساجد الذين يأكلون على مائدة ابن أبى طالب وابن أبى سفيان معاً ويرفعون عقيرتهم بالدعاء لمن ينتصر منهما. فتسرى الهمهمات بين الفقراء عن الحقوق المهدرة كلما ازدادات قسوة الحياة، وتشيع الحكايات عن أن الإقطاعية هى أرض الله التى يجب أن تعود إلى من يشقى فى زراعتها، أو عندما يتمادى البعض فى همساته قائلاً إنها أرض الفلاحين التى لم تسجل لهم فى وثائق رسمية بعد أن جمع الخفراء أوراق ملكيتها العرفية من أجدادهم وأضرموا فيها النيران منذ زمن بعيد.
فى كل دورة من الزمان لا بد أن تقوم هبة من المطالبين بنصيب عادل من المحاصيل، وظروف عمل أكثر إنسانية وكرامة، وتتجسد تلك المطالب فى شخصيات تبقى فى الذاكرة أو يطويها النسيان. كان آخرهم ذلك الشاب القادم من محافظة ساحلية قريبة بلكنته الغريبة ووجهه البشوش، والذى كان يحمل فى رأسه أفكاراً يتداولها الشباب ممن فى عمره عن حقوق العمالة وتنظيم مطالبها. تلك الأفكار لم تكن جديدة عليهم، ولطالما دارت حولها الحوارات من قديم الأزل على ألسنة أبنائهم ممن أنار العلم رؤوسهم، فتتناثر روائحها الشجية فى جلساتهم حاملة أخبارهم إلى أنف الإدارة وآذانها وعيونها، وعادة ما تؤدى لعواقب وخيمة دامية. عندما انضم ذلك الغريب إلى الجلسات الليلية للشباب والكهول بدأ التململ فى صفوف الخفراء، وفى صباح أحد الأيام عثر طفل يتسكع بحماره على جثته مشوهة المعالم على تخوم الظهير الصحراوى للإقطاعية فى طريق مؤدية إلى الجبل. تناقل الجميع الخبر الحزين مصحوباً باتهامات موجهة للخفراء. قال المدافعون: إذا كان القتلة من الخفراء فلماذا لم يأمر شيوخهم بإلقاء الجثة فى بئر ساقية قديمة معطلة ليتحول الأمر إلى قضية اختفاء؟ رد أصدقاء الشاب ساخطين: ألم يستدعونه قبلها بأيام لمقابلة كبير منهم توعده بالشر؟ فكيف إذن سيفسرون بعدها أنه تبخر فجأة هكذا؟ هذه عادتهم، وعلامات تعذيبهم المسجلة على جسده تؤكد فعلتهم. دافع شيوخ الخفراء عن أنفسهم باستماتة. قالوا إن ذلك الولد المائع كان يمارس اللواط مع عامل الطاحونة القديمة الأعرج صاحب السمعة السيئة، وعندما أثبت الرجل حجة غيابه الدامغة، إنتشرت فى تلك الليلة الأخبار التى تؤكد أن أهل المدينة الساحلية لن يصمتوا عن مقتل ابنهم الذى ينتمى لعائلة مسيحية كبيرة تنحدر منها والدته التى تعود أصولها إلى ما وراء البحر، وتملك مصنعاً كبيراً للمعكرونة تورد له الإقطاعية محصولها من القمح، ويرتعب الحكمدار من فكرة أن تتوقف العلاقات التجارية بينهما. قالوا إنهم سيقيمون الدنيا ولن يقعدوها إلا بعد ظهور الحقيقة. بعدها أشرقت شمس اليوم التالى على خبر عودة الخفراء بجثث مثقوبة بالأعيرة النارية، زعموا إنها لعصابة من المطاريد اعتادت على اختطاف الغرباء، وأتوا بها محمولة على عربة كارو يمتلكها عربجى فقير أشاعوا إنه كان ينقل لهم المؤون فى الجبل فقتلوه معهم بعد أن دارت بينهم معركة بالسلاح. ثم قالوا إنهم اكتشفوا بعدها متعلقات الشاب بحوزتهم. لم يقتنع أحد بتلك القصة التى كانت تملؤها ثقوب أكبر وأكثر من التى حفلت بها جثث القتلى من المطاريد. الحقائق المؤلمة لها مذاقها المالح الذى يتبقى على الألسنة بعد أن يتبخر الدمع فوق الشفاه فيميزها عن الأكاذيب التى يشبه طعمها طبيخاً متعفناً يغرقه صاحبه بالبهارات. جرائم من ذلك النوع لن يتوقف تكرارها فى الإقطاعية القديمة إلا عندما يسودها العدل.
من عجائب الحياة يا صديقى الكريم أن الوقائع الرسمية عندما يتم إعادة سردها فى حكاية أو ملحمة شعبية لا يكون ذلك الأمر تكراراً رمزياً ساذجاً لها، بقدر ما يجعلها تكتسى بثوب جديد، يمنحها بعداً خاصاً، ويكسبها طعماً مختلفاً وقد يكسوها بمصداقية أقوى من التى كانت تمتلكها عندما كانت أحداثاً واقعية مؤلمة تتناقلها الأفواه.. وربما تكون هذه هى قيمة الفنون التى نقدمها للكبار وللصغار لتنير قلوبهم وتوقظ ضمائرهم.. أليس كذلك؟