جمال عبد الجواد
الحلف المصرى السعودى: الضرورة والأسئلة
لا ينفع مع نظام العرب الإقليمى سوى قيادة جماعية تتكون من الرئيسى والأكبر بين الدول العربية. كل محاولة قامت بها أى دولة عربية للانفراد بقيادة العالم العربى لم ينتج عنها سوى الفشل للدولة المتزعمة وللعرب جميعاً. لم يقترب أحد من نموذج القيادة العربية المنفردة قدر اقتراب «ناصر»، وبقدر ما كانت قيادة ناصر كبيرة بقدر ما كان إخفاقه أيضاً. ومضات رائعة شهدناها فى سنوات صعود ناصر والناصرية، لكن ليس كل ما يلمع ذهباً، والعبرة بالخواتيم. مات عبدالناصر فى 1970 وإسرائيل تحتل من الأرض العربية أضعاف ما احتلته عام 1948، فيما فلسطين التى قاد ناصر العرب باسمها سقطت جميعها تحت الاحتلال الإسرائيلى، والفلسطينيون مطاردون ومتورطون فى حرب أهلية/إقليمية ضد الجيش الأردنى. فشلت مصر الناصرية بكل مقامها وإمكانياتها فى قيادة العرب منفردة، وفشلت من بعدها كل القامات الأقصر التى حاولت تكرار التجربة، وليس أدل على ذلك من مصير عراق صدام حسين ومحاولات أخرى أقل شأناً وأكثر هزلاً.
لا يوجد بين دول العرب من له من القدرات والإمكانيات ما يؤهله لقيادة العرب منفرداً فيحقق استقرار الإقليم وأمنه تحت هيمنته. القيادة مكانة ومكاسب ولكن لها تكلفتها الكبيرة التى لا توجد دولة عربية واحدة قادرة على تحملها، فمن لديه المال من دول العرب ليس لديه البشر، ومن لديه القدرات العسكرية ليس لديه قدرات اقتصادية تدعمها. لا يوجد بين دول العرب من له من القدرات المتكاملة ما يقنع الآخرين بالامتناع عن منافسته ومناكفته، فليس بين دول العرب دولة بقدرات الصين فى شرق آسيا، أو الهند فى جنوب آسيا، أو جنوب أفريقيا فى الجنوب الأفريقى، أو الولايات المتحدة فى الأمريكتين، ولهذا كتبت القيادة الجماعية على بلاد العرب.
مصادر الشرعية فى بلاد العرب متعددة وموزعة، فمن لديه من بلاد العرب شرعية الحداثة ليس لديه ما يكفى من شرعية التقاليد، ومن لديه شرعية الوطنية ليس لديه ما يكفى من شرعية الدين، ومن لديه شرعية الإنجاز ليس لديه ما يكفى من شرعية التاريخ. العرب المعاصرون يحتاجون إلى كل مصادر الشرعية هذه فى الوقت نفسه، وقيادة العرب لن يكون لها من الشرعية والاستقرار ما لم يكن لديها ما يكفى من كل مصادر الشرعية المطلوبة، وهذا سبب إضافى يجعل القيادة الجماعية الصيغة الأفضل لقيادة العرب ونظامهم الإقليمى.
السعودية وسوريا ومصر كانت هى الصيغة الجماعية الأنجح لقيادة العرب خلال القرن المنصرم، فتحت هذه القيادة الثلاثية انتصر العرب فى حرب أكتوبر 1973، وأنهوا عدوان صدام حسين على الكويت، واستعادوا الاستقرار للبنان فى اتفاق الطائف. لم تعد سوريا مرشحة للمساهمة فى قيادة العرب ليس فقط بسبب الدمار الذى لحق بها، ولكن بعد أن اختار بشار الأسد منذ مجيئه إلى السلطة توثيق تحالف بلاده مع إيران على حساب حلفاء سوريا من العرب. تحالف بشار الأسد مع إيران ضد دول العرب أولاً، ثم تحولت بلاده إلى ساحة لصراع دامٍ بين العرب وإيران ثانياً، فخرج نهائياً من معادلة القيادة العربية، ولم يبقَ فى المعادلة سوى القاهرة والرياض، وعلى عاتقهما معاً يقع عبء القيادة الجماعية للعرب.
استعادة دروس الماضى والتذكير بها مفيد فى وقت تتصدى فيه القاهرة والرياض لقيادة العرب فى مرحلة حرجة لم نشهد مثيلاً لها من قبل. القيادة الجماعية الفعالة ليست فى حاجة إلى تطابق المواقف بين أطرافها. مصر والسعودية وسوريا لم يتطابقوا أبداً فى سياساتهم ومواقفهم. لم يثق الراحل حافظ الأسد فى الأمريكيين أبداً، فيما كانت لمصر والسعودية علاقات قوية بهم. علاقات مصر المقطوعة مع إيران، والتوتر المتكرر فى العلاقات السعودية-الإيرانية لم يمنع الرياض والقاهرة من التعاون الفعال مع سوريا حافظ الأسد. احتضنت القاهرة والرياض قيادة ياسر عرفات للفلسطينيين، فيما سعت سوريا لتقويض القيادة الفلسطينية، لكن هذا لم يمنع التعاون الفعال بين الدول الثلاث فى القضية الفلسطينية وغيرها.
التوافق على الأهداف الاستراتيجية الكبرى هو أساس التحالفات بين الدول، وفى هذه المرحلة تتوافق القاهرة والرياض على محاربة التطرف والإرهاب، واستعادة التوازن لعلاقات العرب مع جيرانهم الإقليميين من غير العرب: إيران وتركيا، والحفاظ على الدول العربية من الفشل والتفتت، ووراء هذا تأتى أهداف أخرى أقل أهمية فى هذه المرحلة.
الحلف المصرى-السعودى ليس اختياراً بين بدائل عدة، فلا الرياض ولا القاهرة لديهما تحالفات بديلة تعوض أيهما عن الآخر، لكن تماسك الحلف المصرى-السعودى لا يمكن ترتيبه تلقائياً على هذه الحقيقة. التحالفات بين الدول ليست دعوة على عشاء مجانى يدفع فاتورتها أحد أطراف التحالف منفرداً. المشاركة فى تحمل الأعباء، بالضبط مثل المشاركة فى اقتسام المنافع، شروط رئيسية لاستمرار التحالفات. استغباء الحلفاء والتهرب من تحمل تكلفة التحالف لا يبنى الثقة ولا يضع أساساً لاستدامة التحالف. المشاركة فى القيادة وعلاقات الندية بين الحلفاء مرهونة بالتوازن بين ما يتحمله الشركاء من أجل استمرار التحالف.
القيادة ليست تضحية من أجل الغير، ولكنها تخدم مصلحة الدولة القائد وغيرها من الدول أيضاً. التحالفات الناجحة المستدامة تعزز قدرات الدولة القائد وتزيد مواردها. استمرار القيادة الجماعية مرهون باستمرار المنفعة المشتركة لأطرافها، فيما توريط الحلفاء بقرارات منفردة لا يساعد على تمتين التحالف. قبول الآخرين بالقيادة الإقليمية مرهون بالخدمات والمنافع التى تجلبها القيادة لهم، وعلى الحلفاء فى القاهرة والرياض أن يطرحوا هذه الأسئلة ويجيبوا عنها أيضاً، وهذا هو المقصود بالتوافق الاستراتيجى الضرورى لأى تحالف.