الوطن
محمد نصر الدين
«سد النهضة ما بين العلم والسياسة»
خلال مسارى التعليمى الطويل تأثرت بالكثير من أساتذتى الأجلاء سواء فى مصر أو فى الخارج، وتعلق فى ذهنى بل فى تكوينى النفسى والعقلى العديد من المأثورات والنظريات والمبادئ العلمية التى كان لها أثر عميق فى نظرتى للحياة، وطورت كثيراً من رؤيتى العلمية والإنسانية، بل وأثرت على مداركى السياسية. ومن أهم النظريات العلمية التى تأثرت بفلسفتها كانت نظرية الجاذبية الأرضية للعالم الفذ «نيوتن»، التى درسناها فى علم الميكانيكا أثناء مرحلة الدراسة الثانوية. ورؤيتى لقانون الجاذبية لم تكن محصورة فقط فى معناها الفيزيائى المعروف من انجذاب الأشياء إلى الأرض، ولكنها تطورت لدىّ لأشكال وأفكار متعددة ومن أهمها انجذاب الفكرة لعقل صاحبها الذى يستميت فى الدفاع عنها وتبريرها، باستثناء القليل من الناس الذين تجدهم منفتحين على الآراء المختلفة ويحترمون الرأى الآخر. إن غالبية الناس سواء فى الموضوعات الكبرى أو حتى فى توافه الأمور، تجدهم متمسكين بآرائهم منجذبين إلى اجتهاداتهم، بالرغم أن منهم من يفتقد الخبرة والمعلومة والحكمة اللازمة للتوصل إلى فكر رشيد أو حل مستدام. وكما تتدخل العديد من العوامل الفيزيائية فى تفسير قانون نيوتن للجاذبية الأرضية، فهناك أيضاً العديد من الأسباب السيكولوجية والعلمية والإدراكية وراء تفسير انجذاب الإنسان لفكره وتعصبه لرأيه. إن هناك من الناس وحتى ممّن يطلق عليهم الصفوة أو النخبة، يعتقدون أن فكرهم هو الفكر الرشيد وغيره هراء، وأنهم يملكون مفاتيح الحكمة ويبصرون ما لا يبصره الآخرون. وفى قرآننا الكريم أعطى الله دروساً للعالمين موضحاً وشارحاً أن العلم والبصيرة والفتح من عند الله الواحد القهار علّام الغيوب. فقد امتثل نبى الله موسى عليه السلام لأمر الله فارتحل طويلاً يبحث عن عبد من عباد الله والشائع أنه سيدنا خضر رضى الله عنه، وعندما وجده قال له باستئذان «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» وأضاف عليه السلام «سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْراً» تاركاً لنا درساً فى كيفية احترام أصحاب العلم والعلماء. ودرس آخر من الرحمن كان لسيدنا سليمان عليه السلام، الذى وهبه الله ملكاً لم يأته لأحد من قبله ولا من بعده وسخر له من كل شىء، ولكن سبحانه أراد أن يهب القدرة والعلم لإنسان بسيط يشارك فى مجلس الرسول الكريم، واستطاع بمشيئة الله وقدرته أن يأتى بعرش بلقيس رضى الله عنها فى لمح البصر، وبما لم يقدر عليه مردة الجن الذين سخرهم الله لرسوله الكريم. هذه إرادة الله فى خلقه يميز من يشاء وبما شاء، ويطلع على علمه من يشاء، فقد قال العلى الخبير «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ»، وقوله «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا»، وكان دعاء أبو الأنبياء عليه السلام «رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ»، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقبل الرأى الآخر بل ويبحث عنه ويستأنس ويعمل به ما دام لا يتعارض مع الوحى الإلهى. إن البصيرة والفتح الربانى منحة من خالق الخلق لمن يريد ويختار من خلقه، وما علينا إلا القبول والرضا بهذه الإرادة الإلهية. وعلى أصحاب القرار من السياسيين والقادة الاستماع بانفتاح لرأى الآخرين حتى لو جانبهم الصواب، وعليهم أيضاً شرح سياساتهم وقراراتهم ليفهم الآخر مسبباتها التى قد تكون غائبة عن أصحاب الرأى الآخر، وعلى المجتمع اختيار الفكر الأفضل لمصلحة البلاد والعباد. وهذا الفكر وراء إنشاء البرلمان ومجلس الشورى (الذى تم إلغاؤه) وهذا هو المفروض أن يكون دور الإعلام الحر الهادف.

والعالم الفذ نيوتن كان له تأثير ممتد على فكرى ورؤيتى، وخاصة نظريته التى تقول «إن لكل فعل رد فعل مساوياً له فى المقدار ومضاداً له فى الاتجاه». إن هذا القانون يحاكى ميكانيكية أداء الطبيعة بأشكالها وأطوارها المختلفة، وليست مقصورة على الأمثلة العلمية الفقيرة التى أخذناها فى مرحلة التعليم الثانوى. إن التغيرات المناخية مثلاً ناتجة من أفعال إنسانية من تلوث وإسراف فى استخدام الموارد الأرضية دون مراعاة لقوانين الطبيعة وفطرة الأشياء، والحروب والدمار والخراب مثال آخر لردود أفعال فاشلة غاشمة للإنسان. وهذا القانون الفيزيائى له وجهان الأول هو «الفعل» سواء كان غاشماً أو رشيداً، والثانى هو «رد الفعل» سواء كان مقنناً أو عشوائياً. والأذى والضرر الذى يحيط بنا عادة يعود للأفعال الغاشمة، ويتضاعف الضرر فى غياب رد الفعل المقنن المدروس. فإذا كان رد الفعل عشوائياً كان من الصعب تقدير عواقبه وتطوراته الزمنية. فثورة يناير المصرية كانت رد فعل عشوائياً لأفعال خاطئة متراكمة لم يتم علاجها بالحكمة المطلوبة، وكان النتيجة ما نراه ونعانيه حالياً من مشاكل ستستمر لسنوات مقبلة. وثورة يونيو المصرية كانت رد فعل شبه مقنن لأفعال عشوائية فكانت تداعياتها السلبية أقل من تداعيات ثورة يناير، ولكن ما زلنا نعانى من آثارها. وسد النهضة يمثل فعلاً عدائياً انتهازياً من قبل الدولة الإثيوبية، فقد بدأت فيه فى أصعب أوقات مرت بها مصر فى تاريخها الحديث، وكان رد الفعل المصرى عشوائياً فى البداية ثمّ ظهرت محاولات لتقنينه فى اتجاهات بناءة، ولكن إثيوبيا وتساندها السودان تحولان دون التوصل إلى رد فعل مصرى مقنن يمتص قدراً معقولاً من الآثار الضارة للسد. ولكن فطرة الخلق تحتم حدوث رد الفعل المناسب للفعل سواء طال الزمن أو قصر، وإذا لم تستغل الدول الثلاث المباحثات الجارية فى إيجاد حل عادل فسيكون هناك رد فعل مصرى بالضرورة لإعادة التوازن إلى الأمور، ولا غالب لفطرة الخلق.

وتأثرت أثناء دراستى العليا فى الولايات المتحدة الأمريكية بالدكتور «بلمان» أحد العظماء الأمريكان فى مجال بحوث العمليات الذى اخترع ما يسمى «بالبرامج الديناميكية»، استناداً على مبدأ «أنه مهما حدث من سلبيات فى الماضى فإنه يمكنك دائماً تعظيم نتائج المستقبل». مبدأ يبعث على الأمل فى غد أفضل، مبدأ يقترب من فطرة الله فى خلقه سبحانه بأنه «غافر الذنب وقابل التوب»، مبدأ كان وما زال يحفزنى دائماً على الاستمرار فى المحاولة طالما ما زالت هناك فرصة ولو ضعيفة، وطالما هناك وقت للتصحيح مهما كان قصيراً. أقول ذلك إشارة إلى ما نشرته وسائل الإعلام المحلية من تصريحات مسئولين مصريين، بأن سد النهضة أصبح حقيقة واقعة، وأنه يجب البدء فى البحث عن موارد جديدة تعوض آثار سد النهضة الضارة بمصر. ومع احترامى لهذه التصريحات وتقديرى لتعقيدات الأزمة، إلا أن الحقيقة المجردة هى أن سد النهضة لم يكتمل بعد، وأمامه أكثر من سنتين لإتمام بنائه، وهذا وقت كافٍ لتغيير الواقع ولتجنب ما نستطيع من أضرار، وللتأكد من سلامة السد الإنشائية والتى قد تتطلب تخفيض ارتفاعه وسعته التخزينية. نحن علينا السعى والعمل الدؤوب أما التوفيق فهو على رب العالمين الذى قال «إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا».. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف