بحسابات الأيام والشهور. يمكن القول إن أربعين الأستاذ محمد حسنين هيكل حل فى السابع والعشرين من مارس. وفى هذا اليوم فضلت العائلة أن تحيى ذكراها بعيداً عن الآخرين. وكما كان الرجل فى حياته يعتبر العائلة حصن الأمان. كان يقول إن العائلة، ثم العائلة، ثم العائلة. لذلك ذهبت العائلة إلى مقابر آل هيكل عند تخوم مدينة نصر ومصر الجديدة لتحيى الذكرى بقراءة القرآن الكريم وقضاء أطول وقت مع الرجل الذى لا يتصور أحد رحيله حتى الآن. وربما تصورت أنه استأذن منا لبعض الوقت ليقوم برحلة خاصة فى الزمان أو المكان أو أعماقه. ثم يعود لنا بعد فترة من الوقت.
ورغم أن أمير الشعراء أحمد شوقى سبقنا وقال بيته الشعرى الذى صار مثلاً وفى مصر. فإن كل شئ يُنسى بعد حين. إلا أن صفحة هيكل لم تطو، وكتاب عمره ما زالت فيه صفحات بيضاء- لكى نكتبها من أول وجديد كأنه يبدأ رحلة أخرى فى عالم لا ندركه ولا يمكن أن نتوصل لمفرداته الكثيرة. من المستحيل إحصاء ما كُتِب عنه فى الصحافة المصرية والعربية والعالمية. وقد اقترحت على الصديقة لميس الحديدى وقت أن كانت تخصص أياماً لبرنامجها للحديث عن الأستاذ أن تتناول ما كُتِب فى صحافة العالم عن هيكل. سواء الصحافة الأوروبية بلغاتها المختلفة. أو الصحافة الأمريكية. أو صحافة أمريكا اللاتينية. أو الصحافة الإفريقية. والصحافة الآسيوية. خاصة صحافة الصين والهند واليابان وروسيا. لأن فيها الكثير مما قيل عن الرجل. لكن زحمة العمل لم تمكنها ولم تمكننا نحن أيضاً من جمع هذا التراث الغالى والمهم. وأتصور أن مؤسسة هيكل للصحافة العربية التى تجرى إعادة صياغتها الآن يمكن أن تلعب مثل هذا الدور من أجل التوثيق وبهدف محاربة النسيان. ولكى ترى الأجيال المقبلة قامة مصرية فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية والعالمية. ربما كانت غير قابلة للتكرار. فالرجل كان نتاج موهبته وابن زمانه. وقد تفاعل مع أحداث عصره وقدم صورة يمكن أن تصل لحدود المثال لدور الصحفى الذى لا يكتفى بالكتابة عما يجري. لكنه تفاعل مع الأحداث بالتأثير. ويعتبر أن القرب من مواقع الحدث ميزة على الصحفى أن يعظمها وأن يستخرج منها أهم ما يمكن استخراجه خدمة للقارئ وحقه المقدس فى معرفة كل ما يجرى وليس استعراضاً للعضلات. من الصعب أن أكتب عن احتفاء الصحافة المصرية والعربية بأربعين هيكل. لأن الكتابة عنه منذ رحيله لم تتوقف. ومستمرة. وكلها ذكريات لكتاب قابلوه أو راسلوه أو قرأوا ما كتبه فى حياته. وكلها تحاول أن تقدم صورة تذكارية لصحفى استثنائى وكاتب نادر وإنسان أخذ رسالته بأكبر قدر من الجدية والصرامة. وتعد كلمة السر فى مشروعه هي: التنظيم. كان الرجل صارماً مع نفسه فى تنظيم وقته والتعامل معه بجدية باعتباره ثروة لا تقدر يجب استغلال كل لحظة تمر منها. باستثناء بعض الصحف إياها التى ناصبته العداء فى حياته وتناولت وفاته بقدر من الشماتة التى لا تليق بالبشر. خصوصاً الذين يصدرون الدين للناس باعتبارهم رجال الله أو محتكرى الإسلام الذين حاولوا النيل من الرجل ميتاً كما حاولوا النيل منه وهو على قيد الحياة بكتابات كثيرة وكتب أكثر. وهى مقالات ودراسات لا تستحق التوقف أمامها ولا الإشارة إليها ولا حتى ذكر عناوينها. فالرجل بمعاركه التى لا تنتهى مضى من الدنيا ولم يبق لنا سوى ما تركه من إرثٍ مهنى ثقافى إنساني. علينا أن نحاول تقديمه للأجيال الطالعة.
فى أربعين الأستاذ حاولت لميس الحديدى أن تجمع 35 حلقة سجلتها معه تحتل 70 ساعة من الحوار مع الأستاذ. قسمتها حسب الموضوعات التى تدور حولها. ودونت أعلى الشاشة تاريخ عرض الحلقة. واستخرجت مما قاله الأستاذ رأيه ووجهة نظره فى كل القضايا المطروحة على عالمنا. ورغم أننى – مثل الآلاف غيرى – تابعت أحاديث لميس مع الأستاذ هيكل. وقرأت ما نشر عنها فى صحافة اليوم التالي. إلا أننى عندما استعدت ما قاله الرجل مقسماً حسب الموضوعات التى تطرق إليها. بدوت كما لو كنت أسمع كلامه لأول مرة.
إن تصفح ما كتبه هيكل فى حياته ومحاولة الاستماع لما قاله. تجعل الإنسان يتوقف من جديد أمام موقف مجتمع النخبة المصرية والعربية من فكرة النجاح. كان يوسف إدريس يقول على الإنسان الذى يريد أن ينجح أن يتوصل لنجاحه ويمارسه والناس نيام. لأنهم لو كانوا يعيشون حياتهم اليومية. لحاولوا منعه من أن ينجح. مع أن النجاح أمر من حق كل مجتهد. لكن المجتمعات التى تعانى من حالة الإحباط العام تضيق ذرعاً بمن يفلت من هذا الإحساس. وهى قضية علينا دراستها لأنها مهمة وتتكرر مع أسماء كثيرة ممن أفلتوا من بحيرة الإحباط وحاولوا التحليق فى السماء.
مفاجأة الأربعين كانت حوار الدكتور أحمد هيكل. النجل الأوسط للأستاذ هيكل مع منى الشاذلي. كشف فيه عن أسرار أسمعها لأول مرة. رغم متابعتى الدقيقة والدؤوبة للأستاذ فى حياته. واستماعى منه مباشرة لكثير من أسرار عمره، التى حاولت نسيانها ومحوها من الذاكرة لأننى ما دمت لم أقله فى حياته. فلا يمكن أن أباهى بمعرفته بعد رحيله عنا.
من يرد الاستزادة من حوار أحمد هيكل مع منى الشاذلى فليعد إليه. لكننى توقفت طويلاً أمام تأثر رجل أعمال تقوم حياته على الأرقام والحسابات الدقيقة. لكن قلوب البشر هى قلوبهم مهما كانت مواقعهم من الحياة. فحتى من تنقلت حياتهم بين أرقام صماء - مثل أحمد هيكل - لهم قلوب.