مؤمن الهباء
شهادة -من النقيض إلي النقيض
لو أنك تابعت مثلي وقائع جلسة محاكمة مبارك الأخيرة أمام محكمة النقض المنعقدة بدار القضاء العالي.. وحاولت أن تقارن ما حدث في هذه الجلسة بما حدث في أول جلسة لمحاكمة مبارك بعد الثورة والجلسات التي أعقبتها مباشرة.. فسوف يذهلك حجم التحول والتغيير الذي شهدته البلاد.. والذي انقلب بنا من النقيض إلي النقيض تماما.. ولن تملك إلا أن تقول سبحان مغير الأحوال.. سبحان من يغير ولا يتغير.
وقبل الحديث في أمر هذا التحول والتغيير أود بداية الإشارة إلي أنني كنت من أشد الداعين إلي ضرورة أن تكون محاكمة مبارك عقب الثورة عادلة وشفافة بالقانون الجنائي العادي وأمام القاضي الطبيعي.. وكتبت عدة مقالات في هذه الزاوية أرفض أية محاكمات استثنائية أو ثورية وأحذر من الاستجابة للاندفاع الثوري في ذلك الوقت.. وأدعو إلي احترام إرادة أنصار مبارك ومحبيه في التعبير عن آرائهم ومواقفهم عندما كانوا يتجمعون علي استحياء أمام قاعات المحاكمة.. يتعرضون لمناوشات واحتكاكات من جانب أنصار الثورة وأهالي شهدائها.
في ذلك الوقت كانت قاعة المحاكمة تزدحم بشباب الثورة وأهالي الشهداء ومحاميهم.. وكانت هتافات الثورة ترج الجدران وتملأ الآفاق تنديداً بمبارك ونظامه.. وكان علاء وجمال مبارك يقفان في صدارة القفص الحديدي يحجبان والدهما عن العيون وعن الكاميرات.
الآن.. ماذا حدث؟!
قاعة المحكمة في دار القضاء العالي كانت مزدحمة بأنصار مبارك ومريديه.. رغم أن مبارك نفسه لم يحضر إلي الجلسة.. وكانت صوره ترتفع في كل زاوية.. والهتافات المؤيدة له والمنددة بالثورة هي وحدها المسموعة.. بينما يوجه هؤلاء الأنصار الشتائم لأهالي الشهداء والمدعين بالحق المدني الذين حضروا علي استحياء.. وتعرض أحد هؤلاء المدعين للضرب والركل بالأقدام من جانب المريدين الذين رفعوا لافتات تقول إن 25 يناير ليست ثورة وإنما مؤامرة ونكسة.. وأقدم بعض أنصار مبارك والمتحمسين له علي حرق احدي اللافتات المكتوب عليها "25 يناير مؤامرة ونكسة ومبارك بريء".. وتعمدت واحدة من هؤلاء الأنصار أن تدوس بقدميها علي هذه اللافتة المحروقة لتأكيد احتقارها وإهانتها للثورة.. وارتفعت أصوات تهتف لمبارك "ارفع راسك فوق إنت حسني" وتنتقد الوضع الاقتصادي الحالي وارتفاع سعر الدولار وغلاء أسعار السلع علي عكس أيام مبارك.
ولم يقتصر الأمر علي ذلك.. فقد قام بعضهم بتوزيع منشور بعنوان "حملة لتكريم الرئيس مبارك" داخل قاعة المحكمة وجاء في المنشور "عشان تاريخه العسكري والسياسي. وفضل يخدم مصر لأكثر من 62 سنة. عشان الأمن والأمان والاستقرار والاقتصاد اللي فقدناه بعده.. عشان الطرق والكباري والمدن والمصانع.. عشان إحنا شعب أصيل مش ناكر للجميل".
وربما ارتبط بهذا التحول الكبير الذي أرصده هنا قرار التأجيل "الثالث" الذي اتخذته المحكمة انتظاراً لتوفير مكان أكثر أمنا وملاءمة لحضور مبارك.. وهذا التأجيل سوف يعلق المحاكمة إلي نوفمبر القادم "يامن يعيش".
صحيح أن أنصار مبارك في المحكمة كانوا بالعشرات.. في حين أن الطرف الآخر لم يكن له تواجد مؤثر.. لكن كان واضحاً أن الغلبة صارت لهؤلاء الأنصار بينما خفت صوت الثورة أو اختفي وتفرق أصحابها.. وذلك علي الرغم من أن هذا المشهد جاء في أعقاب انفجار تسونامي "وثائق بنما" التي جددت المواجع الخاصة بنهب مبارك وأسرته ونظامه للمال العام وتهريبه إلي الخارج.
هنا يطرح السؤال نفسه: هل معني ما حدث أن الثورة قد انتهت وأضحت بحكم الواقع مؤامرة وخيانة فعلاً.. أم أن صوت الثورة وأنصارها في حالة كمون الآن أمام اتهامات العمالة والخيانة.. وسيأتي يوم آخر يرد إليها فيه اعتبارها؟
سبحان من يغير ولا يتغير.