كثيرا ما تكون السياسة الخارجية للرئيس السيسي موضع إشادة مستحقة، ومقابل الإخفاق والفوضي العارمة في الاختيارات الداخلية، لكننا قليلا ما نتوقف عند نقطة ضعف ظاهرة في سياستنا الخارجية المتفوقة نسبيا، وبالذات في سياستنا العربية، وهي الدائرة الألصق بوجودنا وهويتنا، ونقطة الضعف الظاهرة هي فقدان الاتجاه الحاسم، والخوف المبالغ فيه من الانغماس في التفاصيل، وتجنب تكاليف دور مصري يعتد به، والوقوف «بين بين» في زحمة الأدوار الدولية والإقليمية المتصارعة علي ساحات العراق وسوريا واليمن، والأخطر في أزمة «ليبيا» التي هي العمق المباشر المهدد لسلامة الوجود المصري نفسه.
وقد يكون صحيحا أن نتجنب التورط في خوض حروب برية خارج حدودنا، فهذه تكلفة فوق الطاقة في ظروف اقتصادنا المعتل، لكن ما تحت سقف الحروب البرية كثير جدا، وبإمكانات حركة واسعة مؤثرة، شرط توافر الوضوح القطعي في السياسة المصرية، فكثيرا ما يتحدث الرئيس السيسي عن مبدأ إعادة بناء الدولة الوطنية في العالم العربي، وردع التفكيك الطائفي أو الإثني أو الجغرافي، وهو مبدأ لا بأس بصحته العامة، لكن حركة وزارة الخارجية لا تكافئه، وتكتفي بهمهمات وتعليقات عامة، أشبه بالماء الفاتر الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة ولا ملمس، وإلي حد أن وزير الخارجية سامح شكري تصدر عنه تصريحات بالغة الغرابة والشذوذ، ومن نوع أن مصر لا تسعي لأي دور ريادي، وتسعي فقط إلي مجرد التواجد في الزحمة مع آخرين، وهو ما يجعل الدور المصري قابلا للطي والتجاهل، وموضعا لنزاعات وصراعات الآخرين علي احتوائه وإلحاقه، وربما عزله ومحوه تماما، وعلي طريقة اجتماعات ما يسمي «المجتمع الدولي» حول ليبيا، والتي شاركت مصر فيها بصوت خافت، لا يكاد يسمع أو يبين، وكذلك في اجتماعات دول جوار ليبيا التي عقد آخرها في تونس، وحرصت علي التوافق مع الضغط الأوروبي والأمريكي، وجعلت حكومة فايز السراج ممثلا شرعيا وحيدا لليبيا معترفا به في مجتمع الحركة الدولية، ودون اشتراط الحصول المسبق علي موافقة مجلس النواب الليبي الشرعي الذي تؤيده مصر، وبلا ضمانات من أي نوع للجنرال خليفة حفتر حليف مصر في الاتفاق السياسي، ثم بدأ التنفيذ بالتسريب البحري لحكومة السراج إلي العاصمة طرابلس، وبدور تركي قطري ملموس في ترويض ميليشيات طرابلس ومصراتة، وبعزل كامل للدور المصري الذي ترك وحيدا، برغم أن دور مصر في ليبيا المجاورة يصح له أن يكون رقم واحد، وقبل وبعد أي أدوار أخري.
وثمة اختناق ظاهر في الدور المصري بليبيا، ثمة تلعثم في السياسة، ربما يشبه التلعثم اللغوي المشهور في تصريحات وزير الخارجية، والذي ينطق كلمات اللغة العربية علي طريقة الخواجات، ولا يحسن نطق جملة عربية واحدة بلا أخطاء نحوية مثيرة للسخرية، ما علينا، فهذه حالة عامة مؤسية في ثقافة ولغة كبار المسئولين عندنا اليوم، لكن الخطأ في اللغة لا يغتفر للخطأ في السياسة، وقد دفعت مصر تكاليف هائلة لدورها في ليبيا، وكان ذلك في محله تماما، لولا أن التحرك كان مبنيا علي ظروف لحظة قد تتلاشي، فقد تصرفنا علي أساس وجود حكومتين، واحدة في الشرق وأخري في الغرب، ودعمنا حكومة الشرق المتسلحة برضا موقوت في البرلمان الليبي الشرعي، ونجحنا في دفع خطر الإرهاب بعيدا عن حدودنا الغربية المحصنة، وأعدنا تنظيم قوة «الجيش الوطني الليبي» بقيادة حفتر، ولعبنا الدور الأساسي في إعادة تسليحه، وبما جعله رقما يعتد به في أي حساب، وحقق انتصارات ملموسة وصلت إلي غرب بنغازي، ولكن دون مقدرة علي التقدم لما هو أبعد باتجاه طرابلس، وتصرفت أجهزة الدولة المصرية بكفاءة في خطة تحرير الشرق، لكننا لم نلتفت بما يكفي إلي ما يجري في الغرب الليبي، ولا إلي ما يحدث في الجنوب، وتصرفنا علي أن الوضع المقسم قد يستمر طويلا، وأن ليبيا قد تعود إلي صيغتها القديمة قبل التوحيد في خمسينيات القرن العشرين، أي علي أساس معادلة ثلاثية من كيانات «برقة» في الشرق و»فزان» في الجنوب و»طرابلس» في الغرب، وركزنا علي أولوية التحرك في «برقة» الملاصقة لحدودنا، ولم نعط الوزن الملائم لطرابلس العاصمة كعنوان لإعادة توحيد ليبيا الممزقة، تصرفنا علي الساحة الليبية بعقدة «الإخوان» و»الجماعة الليبية المقاتلة»، وتصورنا أن طرابلس قد آلت إليهم وانتهي أمرها، وافتقدنا مرونة التصور والحركة في الغرب الليبي، مع أن جماعات كبيرة ذات ثقل كان يمكن إقامة جسور معها، من نوع جماعة «مصراتة» المؤثرة جدا، وهي ذات طابع جهوي بأكثر منه أيديولوجي، فوق وجود جماعات أخري غرب طرابلس أكثر قابلية للتعاون مع مصر، من نوع جماعة «الزنتان» و»جيش قبائل ورشفانة»، وعدد من قواعد وضباط الجيش المتعاونين مع الجنرال حفتر، فضلا عن نخب القبائل والبلديات والأحزاب الوطنية، وقد جري تواصل مع عدد من هذه الفئات في القاهرة، لكن التواصل لم يجر دمجه في خطة أو تصور شامل لإعادة توحيد ليبيا شعبا وجيشا، وبناء دولتها الوطنية، وعزل ميليشيات الإخوان والقاعدة و»داعش» المتوسعة النفوذ في الجنوب وفي «سرت»، والمحصلة : أن دور مصر بقي محصورا إلي الشرق الليبي بالأساس، وهو ما أصاب تصرفاتنا بالتلعثم مع الاندفاع الدولي الغربي لتنصيب حكومة السراج، ونعتها بحكومة الوفاق الوطني، وتسليمها مفاتيح ثروات ليبيا، وهو ما قد يصادف ارتياحا عند قطاع كبير من السكان الليبيين المنهكين، والآملين في إنهاء الانقسام الجغرافي الحاصل، والداعين لضرورة التعجيل بموافقة مجلس النواب علي حكومة السراج.
وربما لا يصح التوقف عند إخفاقنا الموقوت في ليبيا، بل أن نطور سياسة أكثر انفتاحا وهجومية، وأن نجعل قضية إعادة توحيد ليبيا هي الضمانة الكبري للأمن والوجود المصري، وبدون خذلان لحلفائنا الأقدمين، ولا الوقوع في أسر مصالحهم الصغيرة المتناكفة.