الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
الجسر
يظل فجر الجمعة فى مسجد «التقوي» ببلدتى دمنهور، فرصة للسفر إلى أيام صفاء ولت، تحمل وجوه الحاضرين طاقات محبة لم تمحها عوامل الزمن أو تطوى صفحتها أيادى الفرقة، جذور أصيلة قادرة على أن تمنح المدد لكل من يسير متمسكاً بها فى مواجهة موجات كُره عاتية محدقة، صلاة واحدة فى رحابة محبة تهاوى على عتبتها ضيق تنظيمات الكُره، وتلاشى حضور الفُرقَة. حتى أجبرت وجوها تنظيمية على أن تتطهر من ذنب استخدام المساجد سياسياً واستثمار الدين حُكماً.

سار كاتب هذه السطور بين جمع (فجر الجمعة)، بينهم الوالد الشيخ، وعدد من شيوخ أفاضل وأساتذة وجهاء، كل القلوب تنبض بالدعاء لمصر بالحماية وتوقن بحقيق وعد الله لها بالأمن والأمان، وجميعهم اغتربوا فى المملكة العربية السعودية بحثاً عن سعة الرزق، وتأمين منزل لأسر استحالت بتطور الزمن عائلات، تقريباً لا يوجد بيت فى الحى إلا وأسهم فى بنائه مال الاغتراب المحمول من سنوات كَدٍ فى السعودية، كان جمع (الفجر) مهموماً بأمر الوطن، مشغولاً بأسئلة المصير عن المستقبل، ومعنياً بزيارة العاهل السعودى الملك سلمان بن عبدالعزيز لمصر. غير إن كل الأسئلة باتت تفضى إلى نتيجة واحدة (الشعب على ضفة أخرى من الحكم، يدعو الله أن يلهم ولى الأمر صواب القرار، وأن يُجلى عن الناس سحب غموض تهطل أمطارها، فتباعد بين الضفتين - الناس والحُكم -)!

على ضفة الناس فى بلادى موجات عاتية من التساؤلات التى تغويها المؤامرات داخلياً وخارجياً ويغريها «الطناش» والتسرع والرؤى غير متجانسة لمتصدرى المشهد الإدارى، ويَتربح من تتابعها تجار نخاسة إعلامية، ويصبح يقين الخلق فى وطنهم بين طَرْقً يؤزم من جهة المتآمرين، وتَرْكً يعمق التأزيم من قبل المعنيين بالإدارة والزود عن الحمى، وبعدها نتساءل أين ذهب حماس الشعب الذى ثار ثورتين وأسقط نظامين وترجم ولاءه دماً يسيل شهداء بواسل على الثغور يرابطون، ودعماً مالياً لوطن بمؤسساته القادرة يحلم المواطنون؟.

إنه السؤال الأهم فى معادلة التقارب الحتمى بين الضفتين - الناس والحُكم -، تلك المعادلة التى اختلت مدخلاتها فأنتجت مخرجات زادت من غموض مواقف الدولة التى تستلزم الإفصاح، الأمر الذى يهدد بنقل الواقع من خانة السعى إلى الاستقرار إلى الخطر، وهنا تبرز الحاجة الماسة إلى جسور حقيقية تربط بين الضفتين، لأن غياب هذه الجسور جعل حدثاً جللاً كزيارة خادم الحرمين الشريفين إلى مصر، مُهدَداً فى هدفه الرئيس وهو (التكامل لحماية الوجود)، وهو الهدف الاستراتيجى المرتبط بالمصير القومى لأمتنا، وهو أيضاً الهدف الذى نجح أعداء هذه الأمة فى تمييعه حقباً من الزمن، حتى بات العدو آمناً فى وطننا المحتل «فلسطين» وغدا بأس شعوب الأمة العربية بينها شديدا، وراح حكام الأزمنة التى ولت يتساقطون فى نهايات دراماتيكية ما بين جب يختبئون فيه من المحتل وآخر ظنوا أنه مانعهم من غضب شعب طال تهميشه وتجهيله وتغييبه.

إن إيماناً عميقاً لدى النظامين - المصرى والسعودى- بأن ما كان من أشكال إدارة الوضع العربى قبل (الربيع العربى)، بات ميراثاً عتيقاً فى مواجهة (الشرق الأوسط الأمريكى الجديد)، الذى أعلنت خريطته العسكرية، وزيرة الخارجية (كوندوليزا رايس) فى عاصمة الكيان الصهيونى (تل أبيب يونيو 2006) وكان بمثابة الاتفاق بين (الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهوينى) لخلق حالة من عدم الاستقرار والفوضى تمتد من لبنان وفلسطين وسوريا إلى العراق والخليج عبر إطلاق العنان لقوى (الفوضى البناءة) التى تؤدى إلى انتشار العنف فى جميع أنحاء المنطقة ومن ثم تفرض إعادة ترسيم خريطة الشرق الأوسط وفقا لأهدافها التى صرحت بها فى حينها (رايس) قائلة خلال المؤتمر الصحفى (ما نراه هنا - تقصد الاعتداءات الصهيونية على لبنان- ما هو إلا آلام المخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد ويجب أن نكون على يقين من أننا ندفع نحو شرق أوسط جديد ولن نعود إلى القديم).

وبالتأكيد فإن كلا النظامين -المصرى والسعودى- يحملان بحكم أخوة القومية والدين، وعراقة الوطن والجذور، وتتابع المؤامرات والدسائس، ميراث عالم عربى كامل تفككت أوصاله، وتراكمت أوجاعه، وتشتتت أسره وأبناؤه ما بين لاجئ فى الداخل وآخر فى الخارج، وكلاهما -المصرى والسعودى- باتا على المحك أمام نظام عالمى صرح قبل عشر سنوات بأنه يدفع نحو شرق أوسط جديد ولن يعود للقديم، بالتالى فكلاهما سيواجه كل أدوات المشروع والتى تبدأ بتوحد المواقف الإيرانية الصهوينية ضد التكامل المصرى السعودى، باعتباره (تهديداً للدولتين وأحلامهما التوسعية)، وتمر بالطابور الأمريكى الخامس المنتشر فى بدن الأمة العربية والمعروف إعلامياً بـالتنظيمات الدينية وعلى رأسها (الإخوان). ولا تتوقف أدوات المشروع الأمريكى عن استحداث وسائل لتنفيذ (شرق أوسطهم الجديد)، ولن تعدم قريحة بلاد العم سام إبداع أدوات قادرة على زيادة الهوة بين ضفتى الشعوب والأنظمة.

إذن تلهج ألسنة الناس فى بلادى بالدعاء وقبلها قلوبهم، وتتسارع خطى التكامل لحماية الوجود على المستوى المصرى السعودي، باعتباره النواة لاستعادة واستنهاض العالم العربي، ويلد مخاض الخطو جسراً يربط الدولتين ويقارب ما بين الشعبين، وتشتعل نيران (الشرق الأوسط الجديد) فتصرح إذاعة الكيان الصهيونى بأن الجسر يمثل (تهديدا استراتيجيا لها لأنه يعرض حرية الملاحة من وإلى منفذها البحرى الجنوبى للخطر، ومن ثم يكون سببا مباشرا للحرب). ولأننا أمة ذات سيادة وإرادة فإن تهديدات بنى صهيون تخصهم ولاتعنينا، ولكن ما يعنينا بالدرجة الأولى هو أن يصبح للجسر القادم ظهير من جسور تربط بين ضفتى الحكم والشعوب، تتعاشق فى منمنة وطنية واعية صانعة أرضية صلبة للوعى يحول دون وصول أسهم تستهدف الفرقة والفوضى والكفر بالأوطان قبل الأنظمة .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف