قلت لك وأقول إن الشهور المقبلة لحين عرض اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية ستشهد جدلاً ونحراً وعراكاً لغوياً وجغرافياً وتاريخياً وعملية بحث ربما تكون أكثر إفادة من هذا اللهو البحثى المهرول الذى يقوم به البعض على استحياء الآن، بسرقة معلومة من هنا أو استقطاع جزء من خريطة كامنة فى درج هناك.
الوقت المقبل هو وقت كل باحث جاد وكل خبير فى القانون الدولى وكل صاحب ضمير من المسئولين السابقين وكل أستاذ تاريخ يملك ورقة أو مستنداً يستطيع أن ينصف بها هذا الوطن، وعقول أهل هذا الوطن.
قولاً واحداً.. أخفقت الحكومة ومؤسسات الدولة فى إدارة ملف الجزيرتين بكل هذا التجنيب الذى مارسه المسئولون للرأى العام والشعب المصرى، وفى طريقة إخراج الاتفاقية للنور بشكل بدت معه وكأنها صنعت فى ظلام لخشية صناعها من أمر ما، أقوى ضربة فى جدار الثقة بين المواطنين والسلطة الحالية قد حدثت فى هذا الملف، لأنه اكتشف الطريقة التى تنظر بها الدولة إليه.
دولة تفكر وتخطط وترتبك وتوقع دون أن تكلف خاطرها بإعلام مواطنيها وإخبارهم، أو احترام دستورهم الذى يكفل لهم حق المعرفة والحصول على المعلومة والمشاركة فى صناعة القرارات المهمة والمصيرية عبر مجلس نوابهم أو الاستفتاءات الشعبية.
فجأة شعر المواطنون وكأنهم خارج المعادلة، لا أحد يهتم بإخبارهم، ولا أحد يهتم بتغذية عقولهم قبل أن يملأها الشك ولا أحد غاضب لغضبهم، ولا أحد قادر على أن يكتشف من بطن تلك الأزمة أن المصريين رغم كل شىء، ورغم الخلافات القائمة بين كافة التيارات قد توحدوا وانتفضوا لأجل مصريتهم، لأجل قطعة من أرضهم، وكأنهم يخبرون الجميع من أهل السلطة والمعارضة والسياسة عموماً أن مصر بالنسبة لهم هى رقم واحد، ولا يعنيهم من جلس على الكرسى ومن لم يجلس.
وإن كنت قد فرحت بكل هذه الأصالة المصرية فى نفوس المواطنين، فلابد أن تغضب وتحزن وتبكى من دموعك ما تستطيع بسبب هذه الصورة المخجلة والمثيرة للقرف لأعضاء مجلس النواب وهم ينافقون برخص غير مسبوق الملك سلمان وقت زيارته للبرلمان.
أتفهم جيداً ترحيب مجلس النواب بضيوف مصر، وأتفهم موجات التصفيق المتتالية خصوصاً مع برلمان دخل بعض نوابه إلى أسفل القبة لممارسة تلك المهمة، ولكن لم أتخيل أن يصل حد الإسفاف لهذا المشهد الذى لا يمكن أن يخطر على خاطر أكثر الموظفين نفاقاً لمدير جديد.
كان المشهد مشابهاً إلى حد كبير لتلك اللحظة التى وقف فيها توفيق الدقن فى فيلم «مراتى مدير عام» وهو يلقى قصيدة من النفاق للمدير الجديد الذى لا يعرفه، مستوى شديد الرخص الأخلاقى أظهره بعض السادة النواب الذين قاموا بإلقاء قصائد شعر تمدح الضيف، كما لو كانوا مثل شعراء العصر العباسى يقفون بالطوابير على باب الخليفة لمدحه مقابل المال.
فى الكادر الآخر كان المشهد أكثر فزعاً على الشاشات الخاصة والمصرية وبعض الإذاعات التى اجتهدت فى تأليف وتلحين أغانٍ للوافد الجديد وكأن فارساً على حصان أبيض جاء لإنقاذ مصر، المشهد من شدة بؤسه يدفعك لأن تنظر نحو الجانب السعودى لتجد أن الدولة التى ولدت بعد ميلادك بمئات السنين أصبحت تدير أمورها السياسية الخارجية وفقاً للعبة المصالح والمكاسب، بينما أنت فى مصر ما زال نوابك وبعض من أهل إعلامك يحدثك عن ضرورة الرقص للحصول على النقطة، وربنا يستر علينا لأننا فى طريقنا لكى نموت بالنقطة، وكما تعلم نقطتهم الأولى مال مقابل نفاق، والنقطة التى تقتلنا هى التعبير الشعبى للسكتة القلبية التى يصاب بها المواطن من شدة الحزن أو الضغط الشديد.