آه يا مختار!.. كم المسافة بينك وبينها؟!.. إنها على بعد خطوات منك، ولكن كل خطوة منها بعيدة بُعد السماء عن الأرض!.. آه لو ألغوا المسافات من تفكير البشر!.. مسافات الزمان والمكان!.. أليست الجرائد تكتب كل يوم عن انتهاء عصر المسافة بين البشر على سطح الكرة الأرضية؟، ولكن هنا!، وآه من هنا.. كل شىء ينتهى فى العالم ليبدأ هنا من أول السطر!. تُرى عندما أترك المسمط وتتلاحق خطواتى نحو المنزل، أين تذهب هى؟ وأين يكون منزلها؟. وعندما أخلع ملابسى وأرتدى الجلباب، ماذا تخلع هى؟ وماذا تلبس؟. وعندما أتمدد على السرير وأشرد، ترى فيمَ تفكر هى عندما تتمدد؟.. وماذا تفعل قبل نومها؟. كيف وكيف وكيف. آه يا مختار كل سؤال حيرة، وكل إجابة مسافة.
ولكنها اخترقت حاجز المسافة. أتت إليك!.. نعم أتت إلى السبيل. أكلت من «سقط الحيوانات» بمنتهى النشوة!.. نعم لقد رأيتها عندما تأكل. كان يعلو وجهها انفعال شديد وإحساس بالتلذذ بما تأكل!.. انفعال يفوق انفعال أهل السبيل البسطاء عندما يأكلون. شىء غريب!. البسطاء عندما يأكلون يلتهمون الطعام كالماكينة التى لا ترغب فى شىء سوى الامتلاء. كما أنهم يأكلون بسرعة غريبــة كأنهم يخافون أن يفر الطعام من أمامهم. أما هى وغيرها من أبناء وبنات جنسها فإنهم يأكلون بطريقة مختلفة. يدخلون فى حوار مع الطعام على الأطباق. يأكلون ببطء وبمتعة. فالأكل عندهم فن ومتعة. أما الأكل عندنا فعيش وحياة!.. ما أبعد المسافة!.
ولكن لماذا لا تحاول الاقتراب بعد أن حاولت التصوير؟!.. لقد نحتَ كل جزء من صورتها فى عقلك. فلماذا لا تحاول الاقتراب أيضاً. إن يافطة «ممنوع الاقتراب» وهمٌ فى دماغك ليس إلا. آه من الدماغ ومن صداع الأفكار!.
«عُــد يا حسين. عد. إلى أين أنت ذاهب؟. إلى العراق!.. لا عُد. إنهم قوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك. كــل خطوة تسيرها تدنيك من الموت خطوة. إلى الوراء يا حسين.. عُد يا ابن الأكرمين.. فسيوف الغدر تستحل أول ما تستحل الدم الكريم.. عُد.. لا لن أعود!.. سيبايعوننى بالخلافة. وأنا أحق بها وأولى!.. لن أترك سيوف بنى أمية تقضى على الدولة الديّانة».
- هى: جرسون!.. هيه.. جرسون!.
- هو: إنها تنادينى!.. أستطيع أن أميز صوتها من بين آلاف الأصوات!.
- هو: نعم!.. أية أوامر؟!.
- هى: قليل من الماء يا سيدى.
- هو: نعم!.. حاضر.. ثانية واحدة.
- هى (ضاحكة): أشكرك بغل!.. كم الحساب؟!.
- هو: كم الحساب؟.. خمسة وثلاثون جنيهاً.
-هى (وهى تناوله النقود): ها هم! هيا يا جماعة.
تقوم لتخرج. يسير مختار خلفها. يتوقف أمام باب المسمط. تلتفت خلفها. تراه. تتعجب. تتوقف.. تبدأ كل عقد الخوف والهزيمة فى التراقص أمام عينى مختار.. يرتسم وجهه بما يليق بوجه متهم، من السهل عليه الاعتراف من أول نظرة غضب أو عتاب، هروباً من العقاب، دون أن يدرك أنه يفر من عقاب إلى عقاب، ومن هزيمة إلى هزيمة، ومن سقوط إلى سقوط، ولكن إذا كان الكبار الأفاضل ساروا فى طريق الحتمية ولاقوا أقدارهم.. فكيف يتوانى الصغار الأسافل عن السير؟!.