الحياة والموت وجهان لحقيقة واحدة هى الحضور فى الغياب، أو الحضور فى الوجود. كلاهما حضور بأكثر من معنى. وكلاهما غياب بمعنى من المعانى.
والعلاقة بينهما ليست منقطعة فثم برزخ خفى يفصل بقدر ما يصل بينهما. ولذلك فمن الممكن أن يكون الموت حضورا فى الوجود والحياة غيابا فى الوجود. وانظر إلى ما قاله صلاح عبد الصبور عن الموتى الأحياء والأحياء الموتى، أو إلى ما قاله محمود درويش عن الحضور فى الغياب أو الغياب فى الحضور. وقبل ذلك الأساطير التى تحدثت عن البرزخ الذى يصل بين الحياة والموت، أو خارون ملاح القارب الذى يعبر نهر الأستيكس أو الأخيرون الذى يعبر من شاطئ الحياة إلى شاطئ الموت، ولا يحمل أحياء إلا فيما ندر. وعلى الأغلب -فيما يقال- فإن أصله مصرى. وهو وما أميل إليه «فالعالم الآخر عند المصريين القدماء هو «دوات» الذى يقع فيما وراء القمر. وباستطاعة الأرواح التى تسكنه أن تنتقل ما بين العالمين كلما أرادت». وهذا ما ذكرته جيرالدين بنش فى كتابها عن «السحر فى مصر القديمة» ونقله عنها كاتبنا الكبير محمد سلماوى، وجعله مفتتحا لمجموعته القصصية «ما وراء القمر» التى أصدرتها الدار المصرية اللبنانية منذ أشهر معدودة.
ويحمل الجزء الأول من المجموعة عنوان «الكتّاب لا يموتون». وتتصدره قصة «من يوميات رحلة إسبانية». وتدور حول سفر الراوى (الذى هو قناع للمؤلف) إلى مدريد، وهناك تقترح عليه صديقته الإسبانية إيزابيلا، بعد أن اشتركا فى الصباح فى مظاهرة ضخمة فى قلب مدريد ضد مذبحة الفلسطينيين فى غزة، وحملا مع العديد اللافتات التى تندد بالضربات الوحشية التى دأبت قوات الاحتلال الإسرائيلية على توجيهها للمدنيين الفلسطينيين العزل. وقالت إيزابيلا لصديقها الراوى: «إننا على الأقل نقتل الثور، ولا نواصل تعذيبه عشرات السنين كما يحدث للفلسطينيين». وتكون هذه الجملة استهلالا للذهاب إلى «الكوريدا» -حلقة مصارعة الثيران- حيث يستمتعان بفن المصارع الشاب سباستيان كاستيا. وبالفعل يستغرقان فى مشاهدة المصارعة، ويلفت نظرهما أن المصارع، قبل أن يبدأ فى مواجهة الثور، يدور أمام المدرجات المملوءة بالمشاهدين، رافعا قبعته السوداء فى أثناء تحيته صفوف المدرج الكبير، إلى أن يقذف بها إلى سيدة كانت تجلس فى الجانب المظلل من المدرجات، كأنه يهبها الثور الذى سوف يقضى عليه. ويشاهد الراوى السيدة التى ألقى إليها المحارب قبعته وهى تميل على من يجلس إلى جوارها فيفاجأ بأنه يوسف إدريس الذى مات سنة 1991. وعند الانتهاء يخرج الراوى مع صديقته الإسبانية، ويقابلان يوسف إدريس الذى يدعوهما إلى أعرق مطعم فى مدريد، حيث سيتناولون العشاء مع المصارع الإسبانى. وفى المطعم يدور الحديث عن فن مصارعة الثيران، ويخبر يوسف إدريس الراوى عن شغفه بمصارعة الثيران، وأنه يرى حلقتها منطقة وسطى بين أكبر ضدين، وهما الحياة والموت. تلك المنطقة التى تعيش فيها الحياة جنبا إلى جنب الموت، يتصارعان كما يتصارع «الماتدور» و«التورو». يعنى المنطقة التى تتقابل فيها الحياة مع الموت دون أن يعرف أحد من الذى على قيد الحياة ومن الذى فى عالم الأموات. هكذا تقودنا المناقشة الفلسفية إلى أن حلقة مصارعة الثيران هى فضاء رمزى للصراع الأبدى بين الحياة والموت، فضلا عن كونه فضاء يجمع ما بين الأحياء والأموات الذين يعيشون فى عالم واحد.
هذا العالم الواحد هو ما تقودنا إليه مجموعة محمد سلماوى، حيث الوجود الذى يحتوى الموت والحياة، وتدخلنا المجموعة إلى عوالم جديدة، يصل بينها وحدة موضوعية تصل بين قصص المجموعة التى تنقسم إلى ثلاثة أجزاء، يضم كل جزء منها ثلاث قصص لا تخلو من وهج الشاعرية ولا صدمة المفارقة فى أحداث تصل بين مدريد والقاهرة ولندن وهامبورج وغزة وطرابلس والسويداء والقدس وبيروت وجزيرة لمبيدوزا الإيطالية. ولا نلقى فى هذه القصص شخصيات يوسف إدريس فحسب، وإنما نستأنس بحضور أسمهان ونجيب محفوظ وشهداء ثورة 25 يناير الذين لا يزالون يسألوننا عن ماذا حققنا من شعاراتهم عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وقبل ذلك كله الدولة المدنية. أضف إلى شهداء 25 يناير شهداء غزة والأقباط الذين قامت داعش بذبحهم فى ليبيا فى قصة «إحدى وعشرين طلقة».
وتكشف المجموعة عن إحساس مأساوى ينطوى على قدر من إحباط الأحلام، واليأس الذى ينتهى بانتحار كاتب مصرى فى المنفى، أو سيطرة مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع، حيث تنفجر رغبة الثورة على نظام مبارك وبقاياه الفاسدة ونسفها بما يجعل أشلاءها تتطاير فى الهواء. أما الحزن الذى يأخذ بجماع النفس على مآسى شبابنا الذى تضطره قسوة الحياة إلى الفرار عبر قارب عاجز عن مواجهة أمواج البحر العاصف فى قصة «ثمانية أيام». وهو حزن يختلف فى النوع عن حزن الغضب المكتوم فى مشاهد أطفال الشاطئ الفلسطينيين. ويكتسب هذا الحزن لونا أسود قاتما فى «إحدى وعشرين طلقة». ويتحول هذا الحزن إلى رغبة نبيلة فى إعادة الاعتبار إلى الموتى فى «اسم هان». أما «شجرة اللوز» فتتحول إلى شجوية ناعمة فى شجرة اللوز». أما «باطمن عليكى!» فهى مرثية شاجية لأحد الشباب الذين قتلوا فى ثورة 25 يناير.
ولكن لماذا يعود الموتى إلى عالمنا؟ هل لأنهم يريدون التواصل معنا أو إبلاغنا رسالة ما؟ المؤكد أن هناك بعض الحق فى ذلك. وهو أمر واضح فى عدد لا بأس به من قصص المجموعة، خصوصا قصص مثل «يوميات رحلة إسبانية» أو «وقائع انتحار كاتب مصرى فى المنفى» أو «اسم هان». ولكن هناك البعد الآخر الذى ينطوى على إدانة للواقع الذى نعيشه، خصوصا غياب العدالة الاجتماعية الذى يدفع شبابنا إلى إلقاء أنفسهم فى عواصف مهلكة لا ينجو منها إلا من رحم ربى، فى الرحلة البحرية الخطرة إلى إيطاليا أو اليونان، أو غيرهما من الدول الأوروبية الواقعة على الشط الآخر من البحر الأبيض المتوسط. وإلى جانب ذلك، هناك إدانة الإرهاب الدينى الذى يغتال الأبرياء من المسلمين والمسيحيين، فى نوع من الغدر الزنيم، والقسوة الوحشية التى تحيل الإرهابى الدينى إلى كائن لا علاقة له بمعنى الإنسان أو الإنسانية. وهناك، فضلا عن ذلك، الإدانة للعدوان الإسرائيلى المتكرر على الشعب الفلسطينى الأعزل والمذابح التى ارتكبتها إسرائيل، ويصعب على الضمير العربى بل العالمى نسيانها أو غفرانها. وهناك - أخيرا- الإدانة المضمرة لكل من تجاهل شهداء 25 يناير الذين أسقطتهم رصاصات الغدر التى نسيناها ونسينا معها محاكمة الذين ارتكبوها، بل مواساة الأمهات الثكالى اللائى يحملن أبناءهن الشهداء فى قلوبهن، ويعشن فى ذكرياتهن بما يصلهن بالحياة مع الموت عبر الذاكرة.
والحق أن من يرد أن يصل هذه المجموعة بالبعد القومى فى أعمال محمد سلماوى الإبداعية فى موضوع مأساة فلسطينى فسيجد ما يصل هذه المجموعة بما يتجاوب معها من كتاباته الروائية. ومن يرد أن يصل هذه المجموعة بظاهرة الإرهاب الدينى المخيفة التى نتجت عن التعصب والتطرف الدينى فسيجد ما يصل هذه المجموعة بمسرحية «الجنزير» التى كانت من أوائل الأعمال المسرحية التى تصدت لظاهرة التطرف الدينى الذى سرعان ما انقلب إلى إرهاب دموى، وأخيرا من يرد أن يصل الثورة العنيفة على نظام مبارك فى قصة «وصية الأستاذ» فسيجد أصلا لها فى رواية محمد سلماوى التى تنبأت وأرهصت بثورة 25 يناير قبل انفجارها بسنوات معدودة. أعنى رواية «أجنحة الفراشة».
وبقدر ما يعنى ذلك أن هذه المجموعة القصصية موصولة بأدب محمد سلماوى السابق، وتضيف إليه أفقا مغايرا وجديدا، فإنها تتفاعل وما سبقها فى تكوين رؤية واحدة للعالم، تنطوى عليها المسرحيات والمجموعات القصصية والروايات والشعر (ولمن لا يعرف لسلماوى ديوان شعر وحيد بعنوان «أقمار وأقدار» 2012) ناهيك عن كتبه الأدبية والصحفية والسياسية، وترجماته وإصداراته الإنجليزية. أعنى رؤية عالم، يقع فى القلب منها الإنسان الذى أورثه الله الأرض ليعدل فيها، ويجعل من وجوده فيها حضورا متصلا، طرفه الأول الحياة وطرفه الثانى الموت، وما بينهما -كما تقول الأساطير- برزخ واصل بينهما، يقع ما وراء القمر، ومفتوح على الحياة التى يعمرها نجمان مضيئان هما: الحرية والعدل.