المساء
محمد جبريل
ع البحري- هذه المدن
تنقلت بين المدن والمطارات.. تمنيت أن تكون الموانئ البحرية من بين ما أتعرف إليه. والفنادق واللوكاندات الرخيصة ومحطات السكك الحديد والمقاهي والأندية والشوارع الواسعة والمتداخلة والأزقة المظلمة. قرأنا في رواية ديستويفسكي "الجريمة والعقاب" ان المجرم يعود إلي مكان جريمته.. ولعلي أضيف ان المرء الذي يحتفظ في نفسه بذكريات لمكان ما. يحرص ان يعود إليه.. أذكر فلوبير في حنينه إلي كل ما يتركه وراءه.
أحياناً. أعيد النظر في المكان. أحدق في قسماته وتفصيلاته. أتثبت من كل ما أراه. أحاول - لسبب ما - أن احتفظ به في ذاكرتي. ربما لا أعود إليه ثانية.. استعيده بصرف النظر عن انقضاء الأوقات. لكن النسيان ما يلبث ان يطوي المشهد. أزمعت ثبات تذكره مثلما طوي مشاهد كثيرة. ربما مشاهد أخري غير مترابطة. تومض في الذهن بلا قبل ولا بعد. يتشكل المشهد: بائع كيزان في شارع خال. دوامة من الورق والتراب تصنعها الخماسين. عجوز يجلس علي كرسي في حديقة. سيدة لحيمة تطل من نافذة. قط مبقور البطن إلي جانب الرصيف. تناهي أغنية من وراء الجدران. تقافز سمكات فوق موج البحر الساكن. تمدد الظلال علي جدار مسجد سيد خضر. زغرودة في حضرة ولي وفاء لنذر.. ربما تتشابك الأمكنة. ما كنت أظن أنه قد حدث أمام مقام سيدي المرسي. يحدثني صديق عن حدوثه- بتفصيلات معتبرة - أمام مقام البوصيري.
أحب الأسفار إطلاقاً. أرفض ان ترتبط بتقدم العمر. ولعلنا نتوق إليها في مراحل العمر الباكرة. للكاتب المبدع بخاصة. ينعكس ما يراه علي إبداعه. وكتاباته عموماً. الذكريات الصغيرة. المشاهد الوامضة. العلاقات العابرة. هي التي تهب الحياة معناها. وقدرتها علي المواصلة. في رحلاتي إلي مدينة ما. داخل مصر وخارجها. أحرص فلا أنام. احتفظ بقدرتي علي الدهشة. أمضي الوقت في المشاهدة والتأمل والاكتشاف واختزان ما أجتره بعد العودة - هذا هو التعبير الذي يحضرني - في أعمال توظف بيئات مغايرة. لا اكتفي بالمشاهدة العابرة: هذا شارع. هذه بناية أثرية. هذه دار للأوبرا. هذا ملعب.. الدهشة تعني التأمل. وإلقاء الأسئلة. ومحاولة تبين ما قد تغيب بواطنه عن الصورة الظاهرة. أحرص في البلد الذي أزوره أياماً قليلة. أن أحصل علي أكبر كم من المعارف والملاحظات والانطباعات. أستوعب ما أراه جيداً. أهمل الراحة والنوم. ما أحياه اليوم ربما يغيب عن حياتي غداً. أعيد النظر إلي كل ما أراه. أدقق فيه. أختزن المعالم جيداً: التفصيلات والجزئيات والمنمنمات. وما أراه خصوصية للمكان. أودعه ذاكرتي. أعرف أني سأحاول اجتراره - ذات يوم - والكتابة عنه. أفيد منه في كتابات تغيب - لفترة تقصر أو تطول - تكويناتها الهلامية. أخشي أن يفوتني ما قد ينقص المشهد بغيابه. أو يضيف إليه تشوش الذاكرة ما لم يحدث أصلاً. أعود إلي الوطن. في حوزتي ما سجلته خلال فترة زيارتي لبلد ما. أسجل كل ما عدت به من مشاهدات وذكريات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف