صباح الخير
امل فوزى
«انهض.. بالنصف الثانى» من عمرك!
النهضة الحقيقية التى يمكن أن تحققها فى النصف الأول من عمرك هى أن تعرف كيف تعيش وتستمتع بالنصف الثانى من حياتك.


منتصف العمر.. كأنك تعيد قراءة كتاب لم تقرأه منذ أن كنت شابا، لكن كنت مأخوذًا وقتها بالعواطف والانفعالات، فسقطت منك أجمل النقاط، أما فى منتصف العمر فقد أصبحت لديك العدة والاستعداد اللازمان لرؤية التفاصيل الدقيقة والرقيقة التى فاتتك من قبل وأصبحت قادرا على أن تتذوقها على مهل.
إذا أردت أن تنهض بالنصف الآخر من حياتك رافضا أن تعيش فى عصر ظلمات ذاتك.. عليك أن تدرك أولا أن مفتاح بوابة العمر القادم أن تختار.. واعلم جيدا أن الاختيار ليس بالشىء اليسير.. لكن غيرك «يستحق».
اختياره
لماذا نتحدث عن الاختيار وصعوبته عندما نصل إلى الأربعين أو الخمسين من عمرنا؟!
لأننا فى هذا - من المفترض - أن نكون قد وصلنا إلى درجة ما من الخبرة والفهم والتجارب، وإلى درجة مناسبة بالوعى بأنفسنا وردود أفعالنا ومشاعرنا واحتياجاتنا، وإذا توافرت لدينا كل هذه «المنح الحياتية» وجب علينا أن نستخلص منها ما قد ينهض بحياتنا القادمة أو بما سيهدمها ويعطلها، وسيكون لدينا اختيار «الحياة بالأمل والطاقة والانفتاح، أم حياة بالاعتياد والخنوع والاستسلام».
فى هذا الجزء من كتاب «أزمة منتصف العمر الرائعة» للكاتبة إيدا لوشان، وترجمة سهير صبرى، نؤكد للكاتبة أننا مسئولون بدرجة أساسية عن اختياراتنا وعلينا أن نقر بذلك، ونعترف بأننا قد اخترنا أن نكون «جبناء فى فترة ما فى حياتنا، وآن الأوان أن نواجه أنفسنا، وهل سنختار استكمال الحياة بنفس منهج «الجبن» أم أننا على استعداد للنهضة والنهوض بحياتنا وأنفسنا.
قد يتساءل البعض عما هو مقصود بالنهضة والاختيار.. هل علينا أن نهدم حياتنا مثلا؟!
تحكى سيدة فى السادسة والخمسين من عمرها عن شعورها بأن الحياة كأنها انتهت، بعد أن تخرج أولادها فى الجامعة، واستقل كل منهم فى حياته، وبقيت هى فى بيت مع زوج عاشت معه، آخر خمسة عشر عاما من حياتها، مجبرة ولأجل الأبناء وعدم هدم المنزل وحفاظا على الشكل الاجتماعى، رغم أنها لم تكن تشعر بالرضا عن هذا القرار الذى لم تعلنه ولم يعلنه الزوج نفسه، ولكنهما عاشا حياة باتفاق ضمنى بألا تكون بينهما حياة ودودة وعاطفية، فقط هو كيان شكلى لأجل «ما يسمى بالأسرة المثالية».. وأنا على يقين كامل بأن هذه القصة ليست استثنائية، ولكن لكثرة انتشارها، أصبح البعض يعتبرها «واقعا» ويطلق البعض على تلك العلاقات «سنة الحياة».
مخاوف
وتتعرض «إيدا لوشان» فى كتابها لمثل هذه الحالات المشابهة وتقول: كل هذه المبررات والأسباب ما هى إلا محاولات لإقناع أنفسنا بأنه لا اختيارات لدينا وأننا مجرد ضحايا فى الحياة وكبش فداء لسعادة آخرين، كل هذا للإفلات من مسئولية الاختيار.
لكنها تؤكد أن الاستقلال التدريجى للأبناء قد يكون أول إشارة مهمة لأن حياتنا فى تغير، وتزداد المسألة تعقيدا إذا كانت الأم من النوع الذى تعلق طيلة حياته بأهداب الأمومة، ولم تكن لديها حياة خاصة واهتمامات موازية لأمومتها.. وهنا يبقى نفس السؤال: هل نحن مستعدون لتقييم وتأمل «من نحن»؟! و«أين نقف»؟! و«ماذا نريد لحياتنا القادمة»؟!
كل هذه الأسئلة أسمتها إيدا لوشان هل نحن خائفون من الحياة مع أنفسنا؟!
النهضة بالنصف الآخر من عمرنا لا تتطلب هدم حياة، وإنما تستوجب بناء جديدا لذواتنا، وهو أمر يتطلب الكثير من الجرأة والشجاعة والمواجهة.. قرر رجل أن يغير مهنته فى سن الخمسين، واستلزم الأمر أن يقوم بالدراسة مجددا، وفعل ذلك رغم ما قيل عنه إنه مجنون وغير مسئول وأنانى، لأنه ببساطة تخلى عن جزء من دخله وبعض الامتيازات فى حياته، ولكنه كان محظوظا بتفهم زوجته لهذا التغيير.. ما الذى دفع سيدة فى منتصف الخمسينيات أن تترك عملها كمدرسة وتتوجه إلى دراسة القانون، وقد سخر منها البعض وقال لها ستدرسين القانون ولن يكون لديك العمر لمزاولة مهنة المحاماة؟!
وأروع ما تطرحه إيدا لوشان بمنتهى المنطق والعقلانية فى كتابها حينما ذكرت.. أنه من الرائع التخطيط للمستقبل بالتعليم ودراسة شيء جديد ولكن تحذر قائلة: من الضرورى أن نفكر كثيرا فى التغيير الذى نظن أننا نريده ولا بديل عنه حتى لا نقع فى فخ الإحباط والمضايقات.. فلابد أن يكون اختيارنا نابعًا من داخلنا، وقد لخص العالم النفسى إبراهام ماسلو هذه المعضلة فى مقولته.. إن تناول حساء من الدرجة الأولى أفضل من قصيدة من الدرجة الثانية.. وهذا يعنى - أننا المسئولون - عن تقييم وأهمية اختياراتنا، فمهما كانت بسيطة.. الأهم أن تكون ممتعة حقا. وتذكروا دائما أن منتصف العمر هو الوقت المناسب للانسحاب من اللعبة السخيفة التى نلعبها بابتذال وهى محاولات دائمة لإرضاء الآخرين أو لكسب رضا الناس عنا فهذه أهم ملامح تدمير الذات.
تحكى سيدة أنها انتبهت لسن التقاعد المبكر من عملها فى السياحة والتسوق.. إنها لم تكن منتبهة إلى البشر، وتقول: هناك معانى كثيرة افتقدتها أثناء رحلة عملى وحياتى، أقوم بكل شىء فى الحياة كأنه مهمة أربى أولادى كمهمة عمل، أؤدى عملى بكفاءة كمهمة كنت زوجة تنجز مهمة ما فى حياتها، ولم أكن متضايقة إلى أن التقطت أنفاسى من أداء كل تلك المهام، فاكتشفت أننى «أنجزت بعض المهام فى حياتى بشكل جيد» لكننى لم أعش الحياة ولم أفهم أن ممارسة الحياة هى «البشر» ومن مثلهم «أنا كواحدة من البشر» وكل شيء كنت أؤديه على درجة ما غير متصلة بذاتى، وأتصور أننى لم أشعر لهذا ولم يشعرنى من حولى، فكم كنت محظوظة أن يتقبلنى من حولى بكل هذا التسامح، لكننى اكتشفت هذا الشعور متأخرا، وهذا ما أحاول تعويضه فيما هو قادم فى حياتى وركزت بعد سنتين على العمل التطوعى، واكتشفت معنى آخر للإنسانية داخلى وأصبح تعاملى مع «البشر» على مستوى آخر وأعمق من تلك القشرة السطحية التى أنخرت فيها الكثير خلال رحلة عمرى.. لكننى أستطيع أن أقول إننى «الآن» أحيا الحياة بدرجة رائعة من الانتعاش الداخلى رغم كل المآسى التى أتعرض إليها يوميا من خلال العمل التطوعى.
تنمية الروح
هذا بالضبط ما حللته إيدا لوشان فى ذلك القسم من كتابها الذى اسمته: «تنمية الروح» وقالت عنه: إنعاش الروح يتطلب نوعًا من التدريب على التمركز وتركيز الانتباه داخل الذات، إنه نوع من البعد بالنفس عن المحركات الخارجية التى تمنع صلتنا بمشاعرنا، يجب أن نتعلم كيف «نكون» مثلما تعلمنا كيف «نفعل» فالفريق الوحيد الذى يمكنك الاعتماد عليه طوال حياتك هو «نفسك»، فعلينا أن نتعلم كيف نتأمل أنفسنا ونقترب من أعماق ذواتنا ونتصالح ومعها ونقبلها ونرضيها ونأنس بها.. وما أروع أن تكون صحيحا بدنيا ونفسيا، وإذا أردت أن تشعر بالراحة عليك أن تكون «حرا».. وفى العلاقات الزوجية المتينة، على الزوجين تدريب أنفسهما على التنمية الداخلية «الحكيمة» وهى أن يعلما بمنتهى النضج أن الاعتمادية المطلقة فى العلاقات تستهلك المشاعر وأن الالتصاق الشديد يزيد مخاوف الانفصال، وقد يعطل الطرفين عن الحياة أو يحبط أيًا منهما لأى سبب للانفصال - حتى وإن كان الموت!!
رغم قسوة ما تطرحه إيدا لوشان، إنما بالنظر إلى عمقه فهو أمر حقيقى، وكثير من الزيجات تقوم على الالتصاق والتطابق، لا التكامل والاستقلال، ونحن - البشر - ننسى أن الحياة لم ولن تكون أبدية وكذلك العلاقات.
إذا أردت أن تنهض بحياتك من هذه اللحظة ولما هو قادم لابد أن ندرك أن السر الأهم فى الاختيار هو «قبول الماضى والاستمتاع به مهما كانت درجة آلامه أو عذاباته أما التعلق بأهداب وذيول الماضى، وقد يسلب معك مجالات وبراحا جديدا لن تطأه لأنك غارق فى الأمس، والفرق شاسع بين الوقوع فى فخ الماضى وبين الحنين الطبيعى والإنسانى جدا للماضى.
الأهم ألا تسمح لذاتك بالشعور بالإحباط لما قد تكون فشلت فيه أو أن تجلد ذاتك وتشعر بالذنب المدمر للأخطاء التى تكون قد ارتكبتها.. نحن لسنا معصومين من الخطأ.
لا تسلم نفسك إلى اليأس بالحياة التى عشتها من قبل لأنك قد تسلب نفسك الحياة التى مازلت تعيش وعليك أن تحياها «باختياراتك» وتنهض!!•
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف