نصف الدنيا
نوال مصطفى
بيت الأحلام
إنها أمسيات «شهد» و»طارق» التي ترضي جميع الأذواق، وتجذب الشباب قبل الكبار.. طارق بـ»كاريزمته» الطاغية يشد الجميع للاستماع إلى حكاياته، وفي كل حكاية حكمة أو مغزى أو درس أو تجربة مثيرة تستحق أن تروى.

تشاركه «شهد» هذه الميزة، وتملك عشرات الحكايات التي اختزتنها ذاكرتها من أمها وجدتها.. من قراءاتها وخبراتها، ومثله «حكَّاءة» لديها موهبة الحكي، وفن السرد المشوق الذى يجذب الآخرين إلى المتابعة والفضول.

التف الشباب حول «طارق» و»شهد» بعد العشاء الاستثنائي الذى أعدته «شهد»، وأشرفت على تفاصيله الصغيرة بمساعدة «نادية» الشغالة، و»ليلى» ابنتها الروحية.

يسأل «نادر»:

- ما رأيك يا أستاذ «طارق» في الحب؟ هل أصبح الآن مجرد رمز للرومانسية، لكنه أبعد ما يكون عن أرض الواقع؟

يبتسم «طارق» متأملاً ملامح «نادر» وهو يتلو بيانه الصارم عن الحب الذي كان.. ثم يجيبه شعرًا:

- الحب فى الأرض نوعٌ من تخيلنا.. لو لم نجده عليها لاخترعناه.

يكمل نادر الحوار قائلاً:

- وماذا لو تعارض القلب مع العقل يا أستاذ «طارق».. وهذا ما يحدث في أغلب الأحيان؟

رافعًا كف يده في حركة مسرحية وأداء تمثيلي:

- اذهب حيث يقودك قلبك.

- كيف يا أستاذ «طارق»؟ كيف؟

- حينما تقع فريسةً لهذا الصراع، وَتَحَار أي الطرق تسلك، لا تسير فى أحدها حتى تحسم أمرك والسلام.. بل اجلس وانتظر.. تنفس بالعمق الواثق الذى تنفست به يوم جئت إلى الدنيا، ولا تجعل أي شىء يشد انتباهك.. انتظر.. انتظر طويلاً.. ثم توقف في هدوء واستمع إلى قلبك، وعندما يبدأ قلبك في الحديث أنصت إليه جيدًا، واذهب حيث يقودك.

- الله يا أستاذ.. الله على الفلسفة الرائعة دي.. يا جماعة الأستاذ «طارق» فيلسوف.. والله فيلسوف..

يضحك «طارق» على تعليق «عمرو».. هذا الشاب الذى يتمتع بملكة السخرية من أى شىء وكل شىء.. لديه «Sense of Humor» كما يقول الأمريكان.

يكمل طارق حديثه قائلاً:

- هذه الجملة التي تلخص فلسفة مهمة جدًّا في الحياة، احتفظت بها ذاكرتي ضمن المقولات أو الحكم التى أؤمن بها، والتي شكلتني ككاتب وإنسان.. هذه الجملة كانت عنوانًا لرواية كتبتها الروائية الإيطالية سوزانا تامارو، وترجمتها إلى اللغة العربية الدكتورة أمانى فوزى حبشى.. هذه الرواية لاقت نجاحًا عظيمًا فى بلاد العالم، وبكل اللغات التى ترجمت إليها.. بطلة الرواية سيدة عجوز تجاوزت الثمانين، فقدت ابنتها الشابة وأصبحت حفيدتها الشابة تمثل لها الاثنتين معًا: الابنة والحفيدة.

واستطرد:

- قفزت إلى ذهن الجدة حينما اقتربت من الموت فكرة عبقرية، وهى أن تسجل للحفيدة ذكرياتها وخبراتها والدروس التى تعلمتها من الحياة.. ورأت الجدة أن هذه الذكريات أو المذكرات ستكون كنزًا حقيقيًّا أغلى من المال والعقارات التي يمكن أن تتركها لها.

- كانت الحفيدة تعيش مع جدتها.. ثم سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتدرس هناك.. خافت الجدة أن تودِّع الحياة دون أن تترك ثروتها الحقيقية التي جمعتها خلال رحلة العمر لأحب إنسانة إلى قلبها، فقررت أن تمسك بالقلم والورق، وتحفظ كل الذكريات المهمة والأحداث التى مثَّلت منحنيات في حياتها.

- حكت لها عن طفولتها التي قضتها وسط عائلة محافظة تهتم بالشكليات والمظاهر.. عن زواجها من رجل ممل.. عن علاقتها المتدهورة بابنتها الوحيدة.. عن الموت المأساوي لابنتها الذي تشعر أنها مسئولة عنه، حتى وإن بشكل غير مباشر، أما النصيحة.. «الخلاصة».. فكانت تلك الجملة التى اختارتها عنوانًا لروايتها: اذهب حيث يقودك قلبك.

كان كلام «طارق» يسحر الشباب، ويفجر داخلهم الأسئلة.. قالت «علا»:

- قل لي يا أستاذ «طارق».. لماذا - رغم أننا شباب ولنا «دماغ» تانية خالص غيركم - أحببنا «بيت العيلة» لدرجة أننا لغينا القعدة فى الكافيهات، وتقريبًا ما بنروحش فى مكان تانى إلا الجامعة.. و»بيت العيلة»؟

يبتسم «طارق» ويقول وهو يشير إلى «شهد»:

- اسألي صاحبة البيت يا «علا».. إنت بتسأليني أنا.. أنا زيك مسحور بـ»بيت العيلة».

تبتسم «شهد» وهي توجه كلامها إلى «علا»:

- إنه مثل «بيت الأحلام» الذى كتب عنه أنيس منصور فى كتابه «شارع التنهدات»، وهو بيت في مدينة (رابالو) على ساحل الريفيرا، وصفه كاتبنا فقال إنه بيت بلا باب ولا شباك.. ولم يرتفع على الأرض إلا طابقين.. وحوله يدور العشاق يتمسحون فيه، ويتطلعون إلى السماء، ويتعانقون، ويسمونه (بيت الأحلام).. فهو لم يكتمل كالأحلام. والعشاق يكملون البيت فى خيالهم، ويجعلون له لونًا وعطرًا ويملأونه بالورد والأطفال والأصدقاء.. كل واحد على هواه.. فبيت الأحلام كالأحلام لم يتم.. إنه مجرد مشروع.. إنه سيمفونية ناقصة.

- الله.. الله يا ست.. أعد.. أعد يا ست «شهد» أعد.

هكذا أطلق «عمرو» صيحته الساخرة التى تأتي دائمًا في موعدها كـ»الفينالة» لرواية على المسرح أو كنهاية لفصلٍ في رواية.

يضحك الجميع ويذهب «نادر» إلى حيث سخان المياه الكهربائي، فيدير الزر إيذانًا بتسخين المياه، وإعداد أكواب من الشاي بالنعناع تعدل المزاج.

يكمل «طارق» الإجابة عن سؤال «علا» فيقول:

- الفيلسوف الألمانى «كانت» كان يحب تأمل البيوت القديمة والكنائس العتيقة، ويفكر فيما وراء تلك الجدران.. كان يستلهم أفكاره الفلسفية العظيمة من عبق تلك البيوت.

- أما أنا يا «علا» – لا يزال طارق يتحدث – فأشعر براحةٍ غريبةٍ في هذا البيت، أحسه حضنًا كبيرًا يحتويني، وأرى في أركانه الماضي يتكلم، وينبعث في صورة عصرية.. كأنه اختلط بأنفاسنا، وحرارة أحاديثنا ومشاعرنا فأصبح كائنًا له حضور، له رائحة وإيقاع.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف