الوطن
محمد صلاح البدرى
من الشاطئ الآخر للجزيرتين!
ربما كانت هى المرة الأولى التى يجذب انتباهى فيها موضوع يتعلق بالجغرافيا.. فكم كنت أكره تلك المادة التى تكتظ بالعديد من الخرائط المعقدة.. وتغوص عينى بينها فى أرقام مساحات الدول ومواردها الاقتصادية!! هل تذكر خريطة توزيع المنجنيز فى شمال أفريقيا؟! أعتقد أننى قد التحقت بالقسم العلمى فى المرحلة الثانوية هرباً منها تحديداً! لم أكن أتخيل أننى سأحتاجها يوماً ما، ولكننى فعلت.. ليس فى هذه الأيام، وإنما منذ عدة أعوام.

كان الحدث هو تلك الدورات التى ينبغى الحصول عليها للترقية من مدرس مساعد إلى مدرس والتى يحصل عليها كل عضو هيئة تدريس جامعى.. إنها تلك الدورات التى تختلط لديك أسماؤها، والتى تنتهى بمكلمة طويلة ربما ساعات، ثم يعقبها شهادة الحصول عليها دون أن تدرك ما الذى درسته أصلاً!!

كان ذلك فى منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، حين قابلت ذلك الأستاذ فى قسم الجغرافيا ورسم الخرائط بإحدى الكليات الأدبية.

وقتها كان الحديث عن أزمة حلايب وشلاتين ما زال يملأ الصحف، والحوار حول أحقية مصر فيهما وتصريحات الحكومة بشأنهما هو حديث الساعة.

لقد دار الحديث عن مناطق النزاع الحدودى لمصر مع دول الجوار، وأهمية علم الخرائط فى حسم هذا النوع من النزاع.. إنها موضوع بحثه الذى حصل به على درجة الدكتوراه، لقد كان حديثه مشوقاً حقاً حتى إنه قد أثار شغفى لقراءة رسالته نفسها.. وقتها فقط قرأت لأول مرة عن هاتين الجزيرتين!!

لن أتحدث عما عرفته منه أو ما قرأته بعدها فى كتب أخرى لجمال حمدان وغيره.. ولن أحاول أن أثبت أحقية مصر أو السعودية فيهما، فالأمر قد قتل بحثاً فى الأيام الماضية.. والجميع -حتى من كارهى الجغرافيا مثلى- قد هرعوا يبحثون عن الحقيقة فى كل مكان.. ولكننى سأخبرك عزيزى القارئ عن شعورى نحو تلك الأزمة بأكملها.. إنهما شعوران متناقضان ربما يثيران اندهاشك حقاً!

قد تتعجب إذا ما عرفت أنى سعيد بما حدث من خلاف.. نعم، سعيد بتلك الغيرة التى ظهرت من كل هؤلاء الشباب الذين كانوا يدعون كراهيتهم للوطن، من كانوا يدعون الله على صفحات التواصل الاجتماعى أن يرزقهم بهجرة!.. أو يخرجهم منه على خير.. لقد انتفضوا وثاروا حتى دون علم.. فقط لغيرتهم وحبهم لهذا الوادى الطيب!

إنه ذلك الشعور بالانتماء الذى قد لا تدركه أنت نفسك، ولكنه يسرى فى عروقك مع دفقات الدم.. إنه الحب الفطرى لتلك الأرض.. إنه حب الوطن الذى لم يدرك أحد منا سببه حتى الآن.. ولكننى اكتشفت أنه موجود لديهم وبمنتهى القوة!

لكم تخيلت أن الجيل المقبل يعانى من مشكلة انتماء قاسية.. ربما كانت أخطر على الوطن من كل أعدائه.. ولكن تلك الأزمة قد أثبتت خطأ ظنى، وأعطت أملاً جديداً لهذا الوطن بهذا الشباب. إنها النقطة المضيئة فى هذا الجدل الدائر.. والشعور الآخر هو ذلك الضيق الشديد الذى يعترينى من سوء إدارة المشهد من النظام.. فلم يكن ينبغى أن يعرف الناس الأمر من الصحف السعودية قبل المصرية.. خاصة أن الأمر يتعلق باتفاق مصيرى بهذا الشكل.. أعرف أن الأمر قد استغرق أعواماً فى البحث والدراسة بين الجانبين حتى يظهر الاتفاق بشكله الحالى.. ولكن الإعلان عنه والتمهيد له بل توضيح الخطوات التى اتخذها الجانبان كان ضرورياً لإخراس ألسنة المتربصين، وبعث الاطمئنان للغيورين على هذا البلد!

إننى أشعر بالضيق لأنها ليست المرة الأولى التى يفسد فيها عمل جيد بسبب سوء تسويقه!

سيدى الرئيس.. وطنيتك وصدقك ليسا مجالاً للظنون.. واتهامات التنازل عن الأرض التى أطلقها المتربصون أسخف من أن يتم الرد عليها؛ فإخلاص القوات المسلحة ليس محلاً للنقاش، وكل من التحق بالجيش يوماً ما مثلى يدرك جيداً هذه الحقيقة.. الأرض تساوى الدم.. إنها عقيدة ثابتة لا تتغير.. يؤمن بها الجميع من أصغر فرد فى المؤسسة العسكرية إلى أكبرهم!

ولكنى أعتقد أن شبابك وأبناءك كانوا يستحقون أن تشرح لهم بصورة أكثر وضوحاً ما حدث ويحدث. بدلاً من أن تتركهم للمتربصين الذين يجيدون الصيد فى الماء العكر!

سيدى.. ربما كانت تلك الأزمة سبباً لتقترب أكثر من شبابك الواعى الذى يحب هذا الوطن حقاً.. فلتشرح لهم ولتعلمهم بما يدور.. وأعتقد أنك ستجدهم على قدر المسئولية.. فالأمل فيهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف