نحن نعيش فى جمل تبدأ ولا نعرف متى وكيف تنتهى، نعيش فى مشاهد متناثرة بعضها سعيد وبعضها تعيس وبعضها مرتبك وبعضها غامض، وفى جميع الأحوال عصبية لا يوجد سياق واحد يجمعها، تنتقل من حال إلى حال ومن انفعال إلى نقيضه وخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف ودوران حول موقعنا دون تقدم، هذه هى حالتنا الراهنة لأننا نفتقد المسارات الواضحة فى المجتمع، والنجاح فى أى أمر وليد الصدفة أو مهارة فردية وفى نفس الوقت احتمالات الفشل هى الأقرب ما لم تحدث الصدفة، والوضع الغالب هو التخطيط بين الفشل والنجاح فى التعليم وفى الفكر وفى الاقتصاد وفى السياسة، نعزف جميعاً نغمات إن كانت نشازاً أو كانت صحيحة فلا يوجد لحن يجمع المتناغم فيها ويستبعد النشاز.
نحن مجتمع يدير ظهره للعلم وللتفكير وللتنوير ويحتفى بارتداء خمار الجهل وعباءة الوهم وخلع منهج العلم وكأن المتغطى بالعلم عريان. نجلس على رصيف الخرافة نتداول التشكيك فى العلم وقيمته وفى التفكير والمنطق والعقل وبالتالى فما ننتجه هو ضلالات وترسيخ للبؤس وضجيج يشتعل على أرائك فاخرة أو فى مقاهٍ صاخبة، المجتمع الذى بينه وبين العلم والتفكير عداوة سيبقى أسيراً للضعف والتراجع يتواطأ فيه التدين الشكلى مع انعدام الثقة فى العقل، وسيعيش مفلساً من التنوير، وستبقى النجاحات مهارة وإرادة فريدة وليست عملاً جماعياً أو مناخاً يفرز النجاح ويجعل له سطوة، المجتمع فى حاجة لفتح مسارات فكر وتنوير تجذب من يطمح إليها، وإذا فتحت هذه المسارات فلن تحتاج الدولة لمحاربة الإرهاب، لأن الخطاب الدينى سيصبح خطاباً ثقافياً تنويرياً، وسيتخلص من فقر فكر الصحراء العابسة بقيظها، هذا الفكر الذى نصر عليه والذى يشعل التطرف والإرهاب لأنه أفرط فى تعليمنا طريق الموت ولم يعلمنا طريق الحياة وكأن الدين ضد الدنيا وكأن العمل الجاد ليس عبادة وإنما شعارات المؤمن المتعبد هى الدين، لا بد أن تفتح الدولة مسارات حقيقية للعلم وللبحث العلمى فى ظل مناخ علمى طبيعى يكون فيه التعليم منظماً وذكياً وليس ماسورة تضخ بشراً وشهادات اسمية دون اعتبار لاحتياج سوق العمل واحتياجات الوطن.
المناخ العلمى والتعليم الصحيح لن ينتج عاطلين وإنما طاقات موجهة ومنظمة يحصد الوطن ثمارها، ويتحقق كيان الإنسان فى العلم أياً كانت درجة ونوعية تعليمه، وإذا عادت قيمة التعليم سوف يعتدل الهرم الاجتماعى وتختفى القيم الرديئة من فهلوة ونصب وادعاء، ولن يكون لدينا إحباط لأصحاب شهادات دون علم ودون مهارات، وستختفى أيضاً أجزاء من الفساد فهناك مساحات كثيرة من الفساد تنشأ لأن موازين القوى الاجتماعية تعلن الانتماء والاحتفاء بالمال وليس للعلم وللقيم الأرقى، فالتقييم المادى للإنسان فساد أخلاقى ومجتمعى، تعليم بغير علم كأننا حملنا أسفار العلم ثم لم نحملها لو كانت اتجاهات التعليم والتفكير والثقافة سليمة فهى كفيلة بإعلان انتهاء موجات الفساد الاجتماعى والمال الدينى والسياسى. الوطن فى حاجة لفتح مسارات معتبرة وراقية لحرية الرأى، وقتها سيتحول الشجار السياسى إلى حياة سياسية حقيقية، إلى تيارات تتنافس لمصلحة المجتمع وسيكون للمجتمع القدرة على محاسبتها والحكم عليها ووضعها فى حجمها الطبيعى، لو فتحت الدولة مسارات للإبداع والابتكار سيخرج المجتمع من أزمات كثيرة نتيجة عقم الخيال وانسداد أفق الابتكار، الأفكار المختلفة لا بد أن تكون لها سطوة وإلا تلقى فى سلة المهملات، أو تواجه بحوائط صد المسارات الصحيحة المفتوحة بوعى وعلم وإرادة تفتح آفاق الحلم، ففى ظل مناخ علمى وثقافى يوجد الطريق وكل إنسان واجتهاده وإمكانياته العلمية والعقلية والإبداعية حيث تكون الكفاءة والمقدرة والإرادة والاجتهاد هى المعيار وليست الواسطة أو الصدفة أو اعتبارات أخرى، إذا فتحت الدولة المسارات وكان المناخ العام منحازاً للتنوير والتقدم ومحرضاً عليه سنتخلص من الجمل الاعتراضية التى أصبحت لها البطولة المطلقة فى الحياة، ولن تكون الإفاقة لدينا مجرد لحظات يعقبها سكون أو إحباط أو ليال وأيام موصولة بكلام فى كلام فى شائعات، لأن كل الأقواس تفتح ولا تغلق وتتحول طاقة الاجتهاد لدينا فى اتجاهات الفتى ومحاولات الفهم أو التأليف أو البحث عن ادعاء للبطولة أو للوجود والبعض يقتنصها للندب والبعض يجدها فرصة للمزايدة وتضيع الموضوعية لأن الحقيقة غائبة أو غير واضحة وبالتالى يبقى الاضطراب أسلوب الحياة والمعايير مختلة والأهداف الحقيقية يلفها الضباب. الإصغاء إلى العلم والإيمان به يأخذ الأمم من الغيبوبة إلى الاستفاقة ومن قاع الاستلقاء والثبات إلى النهوض والنهضة والوثوب إلى التقدم، والأمم التى تقدمت قررت التخلص من كل أشكال التخندق فى التطرف والهبوط فى قاع الجهل وقفزت إلى جبال العلم، الأمم التى تقزمت أشعلت الأرض بمعارك ومزايدات على الدين دون ترجمته إلى قيم وأفعال وسلوكيات ونهضة وتمدن، هذه الأمم تصدق عليها عبارة ما أشبه الليلة بالبارحة ونحن منها إنها أمم تعلق أحلامها على حبال التراخى وتهمش الأحداث والقضايا المهمة وتحتفى بكل ما يجلب الانكسار والخذلان والإرهاب.