الوطن
محمد الدسوقى رشدى
صدى صوتى وكفَى!
المسألة هواية، يجلس الواحد فيهم مستمعاً لصوت الموسيقى، تتلبسه روح الاستمتاع، يبدأ فى «الدندنة» وسرعان ما ينقلب حاله إذا سمع صوتاً آخر غير صوته، هم يحبون صدى صوت، يعشقون أصوات الكورال، تلك راحة يبتغونها، لا جدال ولا نقاش ولا صوت آخر مزعجاً مقبلاً من بعيد أو قريب.

ينفرد المصريون بذلك دون غيرهم من شعوب الحضارات، خاصة فئة الموظفين منهم، يحدث الأمر منذ الصغر، الطفل داخل أسرته إن سأل وجادل وناقش يصبح محل استغراب من العائلة بأكملها ويحمل لقب «لمض» أو «رغاى» أما الطفل الصامت فهو الفائز دوماً بكلمات المديح ولقب «المؤدب»، وفى مواجهة طفل النوع الأول صاحب الأسئلة والجدل تستخدم العائلة أسلحة لفظية شهيرة كلها ذات دلالة واحدة «اسمع الكلام فنحن لا نريد أن نسمع صوتاً آخر غير أصواتنا»، كلما بدأ الطفل نقاشاً لا يسمع سوى ألفاظ من نوعية «اسكت»، «هس»، «اخرس»، «مش عاوز صوت»، «مش عاوز نفس»، «ماسمعلكش حس».. وهكذا.

هذه السلسلة الطويلة تصل بك إلى حيث الموظف الجالس على الكرسى فى أى مصلحة حكومية، يسمع كلمات وأوامر مرؤوسيه، يؤدى فروضه طبقاً لكتالوج قديم وحجرى لا يبتكر حتى ولو كان الابتكار طريقه الوحيد لحل الأزمة، ولا يريد أن يسمع صوتاً لموظف صغير معترض أو صاحب فكرة جديدة لأنه اعتاد ألا يسمع إلا صوت نفسه.

تتطور تلك الحالة، ويصبح هذا النوع مؤسساً لوضع جديد هو وضع تضخيم فكرة صاحب الصوت الواحد، يمكنك أن تعود معى بضع خطوات إلى حيث قصة تاريخية بطلها الإسكندر الأكبر..

بعد نهاية معركة أسوس ودخول «الإسكندر» كقائد عسكرى منتصر إلى مدينة الإسكندرية وكانت عقارب الزمن تشير إلى شتاء العام 331 قبل الميلاد، جهز الإسكندر نفسه وانطلق فى رحلة لزيارة معبد آمون بواحة سيوة، وأراد الغازى الجديد أن يختبر ما اشتهر به كهنة آمون من معرفة بالغيب، وبعد رحلة خاضها مع جيشه فى الصحراء وصل سيوة ودخل معبد آمون، خاف الكهنة على أنفسهم ومكاسبهم ووضعهم وطمعوا فى الفوز السريع بجزء من كعكة الإمبراطورية الجديدة، وانتهزوا الفرصة حينما وقف الإسكندر أمام تمثال الإله آمون حائراً ليسأله بصوت مرتفع: لو أنك إله وعندك علم الغيب.. من قتل أبى فيليب؟.. وبعد صمت عم المكان لثوانٍ انطلق كبير كهنة آمون ومن خلفه بقية الكهنة قائلين بصوت واضح: لكن أباك لم يمت.. أنت ابن آمون، والإله آمون لا يموت!

هل رأيت مهارة أكثر من هذه فى فن إرضاء الحاكم أو صاحب الصوت الواحد أو المدير أو الجالس على الكرسى، تلك مهارة خاصة بفئة من المصريين تمتد جذورها إلى عمق التاريخ، لم يتغيروا ولم يتبدلوا، هم على عهدهم باقون، يظهرون فى كل فترة لأداء مهمتهم بانتظام ومهارة، كما فعلوا مثلاً مع مؤسس مصر الحديثة محمد على باشا، فقد كانت الأمور تتخذ منحى سيئاً بين خورشيد باشا والسلطان العثمانى سليم الثالث وبعد محاولات متعددة من ترجى محمد على باشا وإقناعه بقبول الجلوس على عرش والى مصر، فى أول مايو سنة 1805 ميلادية بعد أن ذهبت مجموعة من صفوة المجتمع إليه وأخبروه: «إننا نريدك والياً علينا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير»، وظل محمد على يتمنع ويُعرض عن القبول حتى لا يقال إنه سعى إليه، حتى وافق فى النهاية وأصبح والياً على مصر.. وأنتم تعرفون بقية القصة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف