ناهد صلاح
«قبل زحمة الصيف».. أن تراقب العالم وتندهش وتحكى
كنت فى طريقى لمقابلة المخرج الكبير محمد خان وكل شىء حولى لا يكف عن المناكفة، شارع يبدو حيناً كالمتاهة وأحياناً كساحة حرب، ورأسى على وشك الانفجار، بل كدت أتحول إلى نموذج المرأة المتوحشة كما فى السينما والإعلان التليفزيونى الشهير، لو أستطيع أن أختبئ أو على الأقل أن أوقف كل هذا الصخب وزعيق الراديو الذى يجلب كل الأخبار التعيسة ويصيبنى بهوس رصد الاحتمالات المتباينة، تلك كانت أمنيتى فيما حاولت أن أستعيد تركيزى وأنفض طيش أسئلتى ونزقها فى حضرة مخرج تعلمت من أفلامه أنه من العبث ألا نسأل ونحن نعيش الواقع كـ«تراجيديا» مكررة.
قابلت «خان» فى منزله بحى المعادى جنوب القاهرة، وكنت قررت أن أستجمع قواى وطاقتى المستهلكة وأحكى عن السينما: الحكاية والصورة، حتى رأيته يتأمل دخان سجائره فى صومعته الهادئة، يتطلع خارج نافذته المفتوحة على البراح، وتحيطه كتب مرصوصة على أرفف مرتبة، وشرائط وسيديهات أفلام منظمة بفهرس خاص، وشاشة كبيرة تتوسط المكان حيث يمارس «خان» طقسه اليومى فى التقاط التفاصيل ومراقبة العالم من زاويته الخاصة على طريقة أن تعيش لتراقب وتحكى، يشاهد فيلمين يومياً ويقرأ ما تيسر من الروايات وكتب السير الذاتية لمخرجين أجانب، يتابع الأخبار ويكتب مقالاته وبعض الآراء عبر صفحته على «فيس بوك».
ما الذى يمكن أن يراه «خان» ولا نراه نحن؟ وهل تستطيع السينما أن تكون زرقاء اليمامة تستشرف المستقبل أو تنذر بما يحدث فى الحاضر؟ الأسئلة كثيرة والإجابات كثيرة أيضاً، و«خان» عبر مشواره كان يحمل إجابة جديدة مع كل فيلم، هى لعبته المراوغة التى تحوّل ما يبدو عادياً إلى حالة فنية مدهشة، وهو هذه المرة يجلس فى صومعته يراقب العالم؛ لكنه لا ينعزل عنه، ويقدم بطل فيلمه الجديد «قبل زحمة الصيف»، فكرة «خان»، وسيناريو غادة الشهبندر، وحوار نورا الشيخ، وهو يحملق فى الآخر ثم ينصرف لشئونه: جمعة (أحمد داود) الشاب الصعيدى الذى يقوم بتلبية مطالب أصحاب الشاليهات بقرية سياحية، ويخوض رحلته ويقترب من شخصيات تنتمى لعالم غريب عنه يحكى تفاصيله، يحيى (ماجد الكدوانى) طبيب أربعينى متوتر يدير مستشفى كبيراً متورطاً فى قضايا إهمال؛ يلوذ بالساحل ويتلصص هو الآخر على العالم بعدسته المكبرة، وزوجته ماجدة (لانا مشتاق) طبيبة مشغول بالها باليوجا والتأمل وتتابع سلوك زوجها وتنقم عليها، والمطلقة الجميلة هالة (هنا شيحة) نراها جريئة ترتدى المايوه وتختبئ بعيداً عن الأعين المتلصصة مع حبيبها هشام (هانى المتناوى) ممثل نصف معروف يستغلها مالياً، كل شخصية لها حالتها على حدة؛ ويربط بينهم انتماؤهم لنفس الطبقة وقصصهم البسيطة التى يرصدها «خان» بعفوية لا تحتمل أغراضاً أخرى، هى ذاتها العفوية التى جعلت «جمعة» يتلصص على «هالة» وتقوده أحلامه إلى برارٍ خاوية بلا أمل، دائرة مفرغة يتشابك فيها شخصيات الفيلم الخمسة بلقاءاتهم المتوازية والمتقاطعة فى الساحل الشمالى الذى لجأوا إليه قبل زحمة الصيف، ومع ذلك لم ينج أحد من التلصص، شخصيات بعينها يبرع خان فى تشكيلها وتفاعلها مع سياق الأحداث التى تقدم حالة فنية مختلفة فى تاريخ «خان»، تبدو بسيطة يتخللها شىء من البهجة تؤكدها صورة فيكتور كريدى وموسيقى ليال وطفة، لكنها أيضاً تنطوى على ملمح من التأمل؛ أو بالأحرى تكشف عن سراب يُخلفه الفراغ المُرابط خلف التفاصيل فى فيلم يتفحص الزمن الجديد ويجس نبضه عبر الطبقة الاجتماعية فوق المتوسطة ليكشف الحاضر المكسور، ويحطم تابوهات اجتماعية لا تغنى ولا تسمن من جوع.