البديل
مايكل عادل
ربّما يكون الوطن
يقولون أننا “نهري” أي نتكلّم لمجرد الكلام وحشو الوقت بالحديث الذي يرونه فارغاً من المعنى، فهُم كبار العقل والعارفين بكافّة الأمور الذين قرروا في لحظة ما أن يعيدوا ضبط البوصلة من الوطن إلى الشخص.

يقولون أن من يتحدّث عن قدسية السيادة المصرية على التراب الوطني هو إنسان متصنّع للجديّة والقيمة، يسفهّون من وطنيّة المواطن حينما يحترق قلبه على أرضه التي بيعت في مزاد سريّ ويثمّنون من وطنيّة شعاراتيّة لا تتجاوز الحبر على الورق ورذاذ اللعاب الخارج من حناجر الصارخين بمُفردة هُلامية تختفي ساعة الشدّة والحاجة الحقيقيّة لها.

يتجاوز الأمر بؤس هذا الشاعر المُسن الذي وهب نفسه للدخول على صفحات أصدقائه على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ليقوم بالتعليق على منشوراتهم التي تتضمّن اعتراض على إجراء حكومي أو أسعار فواتير أو حتّى تشكو من حالة الطقس قائلاً الجملة ذاتها في كافة المنشورات وهي “تعيش بلدي، تحيا مصر.. تحيا مصر” وكأنه بذلك يُخرج الشياطين من داخلهم صريعة على أثر مقولته التي يرد بها على شكوى المواطن من حال لا يحتمله. يتجاوز البؤس ذلك الشاعر المسكين الذي صمت عن الهتاف بحياة مصر حينما سُلب من جسدها جزيرتين تعدّان البوابة الجنوبية لسيناء ومحور السيطرة على ساحل البحر الأحمر، بالإضافة إلى أنهما من أروع –بل تكاد تكون أروع- المحميّات الطبيعيّة في القُطر المصريّ.

يتجاوز البؤس الآن صمت هذا المسكين الذي قد يكون مشغولاً في التفكير في فقدان جملته المأثورة لتأثيرها السحري على هؤلاء الخونة والمُغرضين الذين اعتُصرت قلوبهم لتلك الصفقة وتلك الطريقة المُهينة في إجرائها.

يصل البؤس الآن إلى الحد الذي نجد فيه مواطناً حاملاً للجنسيّة المصريّة يبذل قصارى جهده في أن يأتي أو حتّى يزيّف وثائق ومستندات يرجح من خلالها أحقيّة المملكة السعودية في الجزيرتين المصريّتين، فنحن الآن أمام سابقة هي الأولى من نوعها، بل أننا أمام سابقتين أو حدثين لا مثيل لهما. الأولى هي أننا لأول مرة نرى مواطناً يجتهد ويجِدّ ويبحث ويعتصر ذهنه كي يثبت عدم أحقية بلاده في أرضها التي دافع عنها الشعب والجيش بالدماء في سلسلة حروب ارتوت خلالها الأرض الدم الطاهر واحتضنت الأجساد النقيّة.

أما الحدث الفريد الثاني فهو أننا أيضاً الآن أمام كائنات تتهم من يحزن ويغضب لأرض بلاده بالخيانة والعِمالة! أما الوطنية والانتماء فهما من نصيب المفرّطين في الأرض مقابل المال، ودون الرجوع للشعب من قريب أو من بعيد.

المسألة ليست معقّدة أبداً، ومن يحاول تعقيدها هو إمّا مضلِل أو حائر في أمر المضللِين بل إن الأمر غاية في البساطة ودون اللجوء للاتفاقيات التاريخية التي بالفعل تثبت الحق المصري في الجزيرتين، أو الرجوع إلى التحكيم الدولي إبان اتفاقية “كامب ديفيد” والذي يفيد أيضاً بأحقية مصر في الجزيرتين، ودون الرجوع إلى الترسيم والمقاييس التي هي الأخرى ستفيد بأحقية مصر في الجزيرتين. الأمر هنا يتلخّص في سؤالٍ واحدٍ وهو (لمَن الأرض؟ لمن دفع فيها الدماء؟ أم لمن دفع فيها المال؟).

بمجرد الإجابة على هذا السؤال سيتضح الأمر، وسيتضح الخائن من الوفيّ والثرثار من المنضبط. سيتّضح صاحب البوصلة السليمة والانتماء الحقيقي والقلب الحُر من التابع الذي يفترض في الأشخاص الكمال ويتبعهم دون مُراجعة قد تُرهق ذهنه قليلاً، لكنها بالتأكيد ستريح ضميره وقلبه.

الجرائم لا تتم إلا في جُنح الظلام وعلى حين غرّة، الغموض مؤشر للخطأ وعنصر المفاجأة سلاح يكبّل الأيادي، ولا يوجد مكان في العالم كله تتم إعادة ترسيم حدوده بتلك الطريقة وتلك المفاجأة وذلك الغموض المُريب، لا يمكن أن يصل الأمر إلى إخفاء شأن كهذا عن الشعب وتوقيعه بين ليلة وضحاها بتلك الطريقة إلا لو كان مشبوهاً، وهو بالفعل كذلك، فجزيرتيّ “تيران” و”صنافير” هما جزء من جسد الوطن وسيادته وإدارة الدولة وملكيّة الشعب المصريّ من قبل أن تقام مملكة السعودية من الأساس وبالتالي فاقتطاعهما من جسد الوطن هو أمر مشبوه لا محالة، مشبوه شأنه شأن من يدافع عنه ويؤيده ويجتهد لدعمه بالوثائق التي –وإن ضمّت حُججاً تاريخيّة- لن تضُم ثمن الدماء التي دفعها المصريّون ثمناً لاسترداد الأرض وحمايتها، تلك الحُجّة التي لن يشعر بها ذلك البائس الشعاراتيّ الذي يحارب أصدقاءه المتذمّرين للوطن ببضعة كلمات متراصّة لا تتجاوز أطراف أصابعه المرتعشة، ولن يشعر بها أيضاً تلك الصديقة التي طالبت كُل من يعارض بيع الأرض المصريّة بأن يقاطعها للأبد، بل لن يشعر به إلا المصريّ الذي اتخذ من إنسانيّته بوصلة ومن مصريّته وعياً وثقافة وحضارة لم تمسّها البداوة ولم تلطّخها الجهالة والتبعيّة، وربما هذا هو معنى الوطن وقيمة وجودنا به.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف