جمال الجمل
الطبخة.. تيران والزيارة المشؤومة
(1)
استوقف أمين الشرطة أتوبيس الأجرة الصغير (ميكروباس) وقال للسائق: إنزل الباشا عاوزك
* تؤمر يا باشا
– هات عربيتك وتعالى
* معايا ركاب يا باشا
– هاتستعبط، نزلهم يا روح أمك، عندنا حملة أمنية مش لعب عيال.
(2)
قد يتصور أحدكم أنني سأكتب عن تجاوزات الشرطة في بلد القمع، لكنني أرى هذا المشهد بصور أكثر عنفاً في مئات الأفلام الأمريكية، حيث يفتح الشرطي باب أقرب سيارة تقابله، ويشهر المسدس في وجه صاحبها، أو يدفعه خارجها بعنف، ليلحق بالمجرم الذي يطارده، وسواء كنت ممن يتفهمون ذلك أو يستنكرونه، يبدو واضحا أن مثل هذه التصرفات تنطلق من وضع “الأمن” قبل كل شئ حتى الملكية الثابتة لصاحب السيارة، فرجل الأمن هنا يفكر في مهام عمله بصرف النظر عن أي عوامل أخرى، ومن هنا أدخل إلى مناقشة انقلاب مفاهيم رجل الأمن في قضية تيران، فالرجل يناقش ملكية الأرض التي يقف عليها في نقطة تفتيش، ويتخلى عن مكان خدمته، لأنه لا يملك وثيقة ملكية، بالرغم من أنه يقف في هذا الكمين منذ سنوات طويلة.. عن تيران أتحدث، وعن “الطبخة الخفية” التي يشارك فيها السيسي بعلمه أو بجهله أكتب…
(3)
ذات مرة قال حاكم برجماتي (شبه اللي عندنا): لايهمني أن تكون القطة بيضاء أو سوداء.. ما يهمني أن تصطاد الفأر، ولهذا سأناقش البرجماتي بلغته، فالرجل الذي تحرك ضد شرعية رئيس منتخب معلنا انحيازه لإرادة الجماهير على حساب “العقود” و”الوثائق” و”الدساتير”، والذي نكث بكل العهود التي أعلنها حتى لا يقال أن جيش مصر تحرك طمعاً في السلطة، والذي تجرأ على كل القواعد والحريات باسم “الضرورة”، استيقظ فجأة على فكرة “حقي وحقك” ناسياً الضرورات التي أباحت له كل المحظورات التي سعى ولا يزال يسعى إليها، فيظهر هادئاً ومبتسماً وهو يتنازل عن موقع استراتيجي في مدخل خليج العقبة، دفعت من أجله مصر ثمنا غالياً!، وعلامة التعجب هنا لا تتعلق بالحديث الذي شغلت السلطة نفسها به لمحاولة إثبات ملكية تيران للسعودية، لكنها تعبر عن دهشتي من سلوك جندي أو جنرال يسلم سلاحه، لأنه ليس ملكه، وليس لديه فاتورة بشرائه!.
(4)
يصرخ محامي الشيطان في رأسي قائلاً: الرئيس لم يعد جنرالاً، فلا تلوموه لأنه بدأ يفكر بعقلية “المدني” وليس “العسكري”.. يا أهلا وسهلاً بالتنطع، لكن الرد المفحم هو: ولماذا لم يتعامل الرئيس المدني مع القضية في النور؟، ويشرك المجتمع المدني في تفاصيلها؟.. لماذا تم طبخ القضية في الظلام بمشاركة أطراف غامضة، وفي ظل ظروف وتحديات تهدد مصر بالخطر والتطويق من الشرق والغرب والجنوب؟
(5)
الحديث عن الطبخة لن يظل سراً، لأنها تُعد لتؤكل في حفل على الهواء، والسعودية ليست صاحبة الوليمة، ولا حتى ضيفة فيها، لكنها تقوم كالعادة بدور الطاهي والسفرجي فقط، الطبخة وراءها امريكا وإسرائيل لتدويل الملاحة في خليج العقبة، ضمن استراتيجية طويلة المدى، تسمى “الطريق إلى افريقيا”، وهي نفس الاستراتيجية التي تم بسببها تفكيك الدولة في ليبيا، وتحويلها إلى محطة خدمة على الطريق نحو مصادر الطاقة من نفط ويورانيوم في نيجيريا وغينيا وغيرهما من دول القارة البكر، وهي الاستراتيجية الذي تم من خلالها تجنيد ميليس زيناوي في أثيوبيا، وإنشاء قواعد غربية (مثل معسكر ليمونيه في جيبوتي)، وتفكيك اليمن لإحكام السيطرة الدولية على البحر الأحمر (وهو بحر إقليمي عربي محض) من جنوبه إلى شماله، ومن هنا تم تصنيع وضعية للسعودية في منطقة جزر التيران، بالمخالفة للحقائق الجغرافية والتاريخية، والأهم والأخطر بالمخالفة للبديهيات الاستراتيجية وضرورات الأمن القومي والإقليمي العربي.
(6)
القصة إذن ليست صراعاً مع السعودية، ولا طمعاً في مساحة أرض صخرية، لكنها قصة خيانة تضر بمستقبل المنطقة كلها، وخطوة ضمن مخطط إعادة تشكيل المنطقة، وهو كلام شبه معلن في الغرب، ولهذا لاحظت أن توزيع المواقف الرافضة والمؤيدة للتنازل عن تيران، يتجاوز الخلافات السياسية المحلية، ويرتبط أكثر بالموقف الدولي، فالفريق الذي يدور في فلك الغرب يجاهر ويسارع بضرورة تسليم تيران، حتى الناشط عمرو حمزاوي، مع تحفظي على استخدام دراسة البرادعي التي تم ترويج جانب مجتزأ منها يقول “لا تقربوا الصلاة” لكن الدراسة نفسها، تتحدث بوضوح قاطع عن سيادة مصر على مضيق انتربرايز، وهو المضيق الملاحي الرئيسي لخروج السفن الكبيرة من خليج العقبة، وهذا التوظيف المغرض تم مع كتاب جمال حمدان عن سيناء، ومع فقرة من كتاب “سنوات الغليان” لهيكل، تحدث فيها عن الوضع المؤقت لتيران بعد حرب 48 فقط، وهو حديث صحفي وسياسي، ولطالما أكد هيكل في مقدمات كتبه السياسية التي استخدم فيها الوثائق أن كتابته لا تعد تأريخاً، وأنه ليس مؤرخاً، فلماذا تجتهد السلطة في التبرير والتلفيق؟ ولماذا تمضي في طريق الإجراءات دون انتظار لرأي شعب أو برلمان أو حكماء؟، فقد بدأت الأنباء تتكشف أن الترتيبات مع إسرائيل وأمريكا تمت بالفعل في وقت سابق، و كما قال أمل دنقل: “القطارات ترحل فوق قضيبين. ما كان ما سيكون”.. فسلطة التشدد حتى القتل (مع الداخل) لا تتريث ولا تخجل من التفريط والتهاون حتى الخيانة (مع الخارج)
(7)
هذا مجرد مدخل لوضع القضية في سياقها الأمني والاستراتيجي، وبيان الأطراف الفاعلة والمحركة للدمى وراء الستار، لكن مثل هذه القضية، ليست أزمة في فنجان، ولن تكون أزمة عابرة وتمر، إنها الوجه المكمل لزيارة السادات المشؤومة للكنيست الإسرائيلي.. في الزيارة التي ذهب فيها السادات إلى إسرائيل بدأت خطة الإنقلاب على نصر أكتوبر، وفي الزيارة التي جاءت فيها إسرائيل إلى القاهرة تحت قناع آل سعود، يكملون الإجهاز على ما تبقى من مواطن المقاومة والصراع في بلدٍ عانى كثيرا بسبب كل خنفس، وكل بركات، وكل خائن بك..
(8)
#تيران_لا