«أنا مسؤول والجيش معايا مسؤول».. هكذا علق الجنرال عبد الفتاح السيسي علي زيادة الأسعار في لقائه أمس بما يُسمي الأسرة المصرية، ثم توجه بالحديث للفريق صبحي صدقي، وزير الدفاع الذي حرص الجنرال علي حضوره، قائلا: «ماشي يا فندم», ليرد الفريق بالتمام العسكري المعتاد!.
الأمر هنا ليس غريبا ولا جديدا, فالجنرال الفيلسوف قاد حملته الدعائية نحو سدة الرئاسة مبكرا عبر بريق بزته العسكرية الذي يثير لعاب جمهور الفاشية الوطنية, وقاد لحظة بلحظة خطة مرشح الضرورة التي همس في أذنه بها فقيد دولة يوليو محمد حسنين هيكل, وداعب شبق أعداء الثورة بقبضة حكم حديدية تبطش بالجميع عبر تسريبات متقنة التوقيت والمضمون لشهور, وهندست حاشيته حملات الشبق الجماعي وغرام النساء الحُبلى بنجمه, حتي حانت لحظة الحقيقة ليجتمع الجنرال بالمجلس الأعلي للقوات المسلحة ثم يخرج للناس في ذات الليلة بقرار ترشحه أو بالأحرى تعيينه رئيسا للبلاد, وبتعيين الفريق محمود حجازي رئيسا لأركان القوات المسلحة في الآن ذاته, وهو الوثيق الصلة بالجنرال الفيلسوف العساس ووريثه في منصب مدير المخابرات الحربية!.
على أي حال, لم تكن كل تلك الخطط وكل هذا العمل السري المضني من أجل الترشح لرئاسة الجمهورية وحسب, فقد كان بوسع الرجل وقتها أن يعلن عن نيته فورا, وكان هذا فقط كفيلا بأن يملأ الصحف وقنوات التلفاز ومواخير الدولة بالنفاق واللافتات المؤيدة المبايعة له مدي الحياة, لكن ما بذله الرجل من جهد تآمري كان من أجل لحظة كهذي في أزمة كهذي ومن أجل كلمة كهذي: “أنا مسؤول والجيش مسؤول معايا”, ليؤمّن وزير الدفاع فورا علي ما قاله بالتمام العسكري المعتاد !.
غير أن الوصول لسدة الحكم لم يوقف العمل الدؤوب للجنرال كي يتماهى الجيش في شخصه, فلو تأملت مجمل خطابات الجنرال في أعقاب تنصيبه رسميا رئيسا للبلاد ستجد أن غالبية تلك الخطابات كانت في مناسبات مختلفة تخص القوات المسلحة, وهي المناسبات التي كان حريصا فيها علي التواجد وسط كبار الرتب وقادة الأسلحة حتى إن كان يفصله عنهم حرسه الخاص الذي استأجره بمعرفته, ومن باب حرص الجنرال الشديد أيضا علي تأمين ظهره من ضباط المؤسسة التي صار يحكمها ويحكم باسمها أن جهاز استخباراته الحربي الذي انتقل معظم طاقمه معه إلى الاتحادية ظل منكفئا لشهور علي مراجعة ملفات جميع الضباط ونشاطهم واتصالاتهم إبّان حكم الرئيس السابق محمد مرسي للدرجة أن تتم محاكمة 26 ضابطا (بعضهم كان محالا أصلا للمعاش) في أغسطس الماضي بتهمة التدبير لانقلاب عسكري بأدلة لا تعدو مجرد الشبهة باتصال بعضهم ببعض المعاونين في مؤسسة الرئاسة إبان وجود محمد مرسي في سدة الحكم !.
كما حرص الجنرال خلال ثلاثة أعوام حكم فيها مصر، عامين منهم بصفة رسمية, على أن تصدر التعليمات من مكتبه للصحف وللقنوات التليفزيونية بالتركيز على ما يسنده من مشروعات بالأمر المباشر للهيئة الهندسية بالقوات المسلحة, وكذا حرص على حضور افتتاح جميع تلك المشروعات بنفسه حتى لو كان بعضها عبارة عن بضعة وحدات سكنية كان يقوم عادة بافتتاحها في الماضي رؤساء الأحياء أو مجالس المدن أو المحافظين علي أقصي تقدير، فقد كان المهم أن يظهر الجنرال المدني للعامة محاطا بالرتب, وأن يبدو كالممسك بالأمور, الآمر الناهي الذي يصغى إليه الجميع حتى لو كانت تلك الأوامر عبارة عن تغيير مفاجئ لمواعيد تسليم المشروعات المقترحة, في مشاهد كان مقصودا منها إظهار السيطرة, وإن بدت للمتابعين كمشاهد فصال بين بائعي الخضار !.
بالطبع سيكون من نافل القول أن ما بدأ تنفيذه من تعيين لحدود مصر المائية منذ عام بعيدا عن أعين أهل الشر وأعين أهل المحروسة كان يتم بعلم ومشاركة وزارة الدفاع وبلجان مختصة منها وبرعاية كبار القادة, وهو الأمر الذي حرص الجنرال في موعظته الأخيرة علي التأكيد عليه في حضرة وزير الدفاع, ومن نافل القول أيضا أن ما تم لم يكن ليمر دون مشاورات مع إسرائيل والولايات المتحدة وموافقات صريحة من كليهما, وأن ما تم وبصرف النظر عما يُساق من عبث باعتباره أدلة هو دلالة تبعية مُذلة وعمالة ورخص شديدين, لكنها مواضيع لا يرغب الجنرال في فتحها أو نقاشها أو حتى المرور الكريم علي ذكرها .!
على أي حال, دأب الجنرال علي خطاب خصيانه لا عبر العواطف أو لغة العيون العسلية كما يظن البعض, وإنما عبر رسائل محددة وواضحة قوامها أنه الجيش والجيش هو, وربما لهذا تظهر ثقة التنطع لدى الخصيان الذين يتشدقون بخطاب الوطنية وقيمة التراب والعرض والشرف ويلوكون حديث المؤامرة كما تلوك عاهرات الليل علكتها الرخيصة, ويوزعون تهم العمالة والخيانة يمينا ويسارا علي كل من خالفهم الرأي أو بدا مترددا في التأييد أو عازما علي التفكير, وهي ثقة التنظع التي فاجأت حتى أشد جمهورهم رداءة وانهزاما حين تبدلت مواقف الخصيان من إنكار ما حدث من تفريط بليل, متهمين من يردد الأخبار بالخونة مروجي الشائعات, إلى النقيض تماما في الصباح حينما أدرك خصيان الجنرال حقيقة الشائعات, فصارت الخيانة هي رفض التبعية والتفريط .!
غير أن الأمور ليست كما يراها الخصيان والأفاقون والمنسحقون, فما لا يدركه هؤلاء أن ما يبالغ الجنرال في إظهاره لخصيانه ومريديه ليس دلالة سيطرة قدر ما هي هواجس الخوف من تحرك تلك المؤسسة التي يحكم باسمها, فهو يعلم جيدا أن مصر الآن مرشحة لحدوث انقلابات عسكرية أكثر من أي وقت مضى, وكلما مضى الجنرال وحاشيته وكبار رتبه قُدما في الغي كلما زادت احتمالات حدوث تلك الانقلابات.
ربما ليس التنازل عن الجزيرتين هو أكبر جرائم الجنرال, لكنه أخطرها.. فالحادثة تكشف بفجاجة شديدة حتى لأولئك من محدوي الأفق ومحدوي الذكاء والمعرفة عن انهيار تام لخطاب الوطنية التليد اللي ساق أجيالا لمقصلة الهزيمة والانسحاق، فما حدث هو هزيمة ألحقها الجنرال وطاقم رتبه من سدنة الوطنية بكامل معسكرهم ومعسكر الوصاية التاريخية، وهي هزيمة لم يكن ليلحقها بهم أيٌ من خصومهم حتى ولو من باب التمني, وهي ربما الشىء الوحيد الذي قد يدفع كثيرين داخل الأجهزة الأمنية وداخل المؤسسة العسكرية للانقلاب على ممثلهم انقاذا لما قد يعتقدونه شرعية وجودهم وتمايزهم ووصايتهم .. حتي تلك الرتب التي تحيط بالجنرال العساس في كل محفل قد يكونون أول من يطعنونه إن أظهرت الجماهير أمارة غضب واحدة.
ربما لهذا تبدو ولاءات عملاء الأجهزة متباينة, وتبدو تقديراتهم مختلفة, وربما لهذا لا نرى التحفز المعتاد لتلك الأجهزة ضد دعوات التظاهر هذه المرة .. فالكل يترقب, ويرغب في معرفة حجم الغضب وحجم المقاومة, وربما كان هذا هو خط الرجعة الأخير للنظام .!