فى مصر لا توجد قواعد أو معايير محددة للحديث عن أى قضية ولا يوجد قانون واحد ينطبق على الجميع ولا حتى تعريف واحد لديه نفس المعنى عند الجميع مع أن هذا الأمر هو من أبجديات المنطق.
مثلًا بعد الثورة على نظام مبارك اختلفنا هل كان المتظاهرون فى ميدان التحرير 400 ألف مواطن؟ أم أربعة ملايين، وهل المتظاهرون فى 30 يونيو كانوا 33 مليونًا ولا نصف مليون وهل متظاهرو رابعة أربعة ملايين ولا 200 ألف؟
هى أشياء تحتاج منا فى المستقبل إلى تحديد آلية حسابية منظمة لمعرفة عدد المتظاهرين، وعدد القتلى وعدد الشهداء وعدد البلطجية وخلافه، وإلى أن يتم تعيين تلك الأداة - وبالمناسبة لن يتم تعيينها - يجب أن نصدق كل ما يقال أو نكذب كل ما يقال، لكن الحاصل أن من ينحاز إلى فريق يرى من المشاهد ما يؤيد به وجهة نظره فقط، وبالتإلى غاب الحياد فى التحليل وانتشر الكذب والتضليل وظهر المطبلاتية بكثافة.
مثلا سهل جدًا إذا اعتنقت فكر الإخوان أن أبرهن لك على نزول الملائكة وقتالهم للمشركين فى رابعة، وأن عدد الشهداء تجاوز المليونى مواطن، أما لو كنت فى معسكر السيسى فمن اليسير أن أدلل على حجم الأسلحة الذى يستطيع إسقاط دولة وعلى حجم العنف داخل الاعتصام وإعداد الجثث المكفنة سابقة التجهيز الذين أعدهم الإخوان فى رابعة، وأن الضحايا 800 شخص أو أقل.
أما لو كنت من شباب الثورة فطبعًا الإخوان ضحكوا علينا والسيسى أكمل المسرحية ونحن فى السجون منكل بنا والبوب الصالح قدم الحل لمنع سفك الدماء لكنهم رفضوه.
غياب المعايير الواضحة أدى إلى تعدد الآراء المتضادة بشأن حدث واحد يراه الجميع فى نفس وقت حدوثه، ومن نفس المكان لكن للأسف بطرق متعددة، وأكاد أجزم أن مصر تنفرد بأكثر من عشر روايات للحدث الواحد الذى - وللمفارقة - لا يحتمل أكثر من تأويل.
البعض فى مصر الآن يرى أن البلد ضاعت وأن السيسى ديكتاتور.
البعض الآخر يرى أن السيسى ملاك يمشى على الأرض، ولا أحد يعاونه وليس لديه رجال دولة يساعدونه.
البعض الثالث يرى أن قدرات الرئيس محدودة، وأنه كان يملك فرصة تاريخية وأضاعها.
البعض الرابع يرى أنه صاحب عبقرية مخابراتية ويمسك الأمور كلها فى يده والبلد فى تقدم معه.
البعض الخامس يرى أن السيسى بلا إنجازات وأن مشروعاته ليست مجدية.
والبعض السادس يراه قام بمعجزة فى أقل من سنتين.
هو نفس الشخص ونفس الأداء، لكن اختلفت التقييمات، مشكلة التقييم أنه ليس علميًا ولا مدروسًا بل مجرد انطباع وفقًا لهوى سياسى، المثير أن لا أحد يتقبل وجهة نظر الآخر أبدًا، ولا يعتقد أنه مجرد صاحب وجهة نظر تحتمل الصواب أو الخطأ بل يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وكل من عداه عملاء أو عبدة بيادة أو شاربو عصير برسيم أو خرفان.
تحولنا إلى أمة من الرعاع والمجرمين والمشوهين على أيدى بعضنا البعض، ومازال الانحدار الأخلاقى والفكرى مستمرًا، ولا أرى محاولة للوقوف واكتشاف المكان الذى وصلنا إليه والتدقيق فيما يحيط بنا من مخاطر والتحاور على أرضية واحدة وهى الحفاظ على الوطن أولًا وليس إثبات من منا يمتلك الحقيقة ومن بعيد عنها ثم محاولة الإصلاح والتطوير ثانيًا.
لدينا مجموعة معطيات أرى أنها واضحة على الأقل بالنسبة لى:
وطن مهدد اقتصاديًا وأمنيًا وسلطة تحاول، لكنها تكتسب العداء بدلًا من المدح ومجموعة من الشعب تعيش على أمل خاطف فى النجاة ومجموعة أخرى من الشعب تنتظر بفرحة غامرة موعد الرقص حول جثة الوطن بعد أن يسقط، ومجموعة منسحبون وأخرى محبطون وثالثة مطبلون.
إذن ما الحل؟
رؤيتى - التى تحتمل الخطأ قبل الصواب - أن البداية لن تكون عند الشعب البداية ستكون عند الحاكم عليه أن يسأل نفسه أسئلة لابد أنها تلح عليه الآن ولابد من أن يحصل على إجابات حقيقية.
لماذا يهاجمونني؟ لماذا تخلى عنى قطاع مهم من الشباب؟ لماذا بدأت الأصوات تعارضنى بهذا الشكل؟ لماذا لا يمدون أيديهم إلى يدى وأنا أريد استيعابهم فى مؤسسة الحكم؟
عليك أن تسأل نفسك هل حقق لى قانون التظاهر ما كنت أحلم به من استقرار للوطن؟ أم جعل بعض أصحاب النزق الثورى ودعاة الحرية وحقوق الإنسان يفرون من معسكرى ويهاجموننى وساءت سمعة حكمى عالميًا.
وهل الحفاظ على القانون الذى دهسه أمناء الشرطة بأحذيتهم يستدعى التضحية بمجموعة من الثوريين- منهم الصالح ومنهم الطالح- لكن المحصلة الميكافيلية أنهم تحولوا إلى نقطة سوداء فى حكمك؟ وبالمناسبة كان وما زال يمكن تداركها.
عليك أن تسأل نفسك ماذا أضاف إليك أحمد موسى ومصطفى بكرى ومرتضى منصور وعكاشة ومن على شاكلتهم مقابل ما خسرته من شرفاء يرون أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا رجال المرحلة؟
هؤلاء أساءوا إليك أكثر مما تتصور أو تتخيل نعم أنت لا تقول إنهم رجالك لكنهم يدورون فى الأسواق يؤكدون أنهم أكثر من رجالك بل شركاؤك فى الثورة ويمكن فى الحكم أيضا.
عليك أن تسأل نفسك لماذا هذا الأداء السياسى والاقتصادى والإنسانى المتدنى والهزيل من الوزراء والسياسيين والنواب والإعلاميين هل هو سوء اختيار؟ أم أن هؤلاء أفضل من أنجبت مصر؟
قناعتى الشخصية ما زالت لديك فرصة كبيرة للنجاح، فقطاع كبير من المواطنين يحبونك حتى المختلفين معك بعد 30 يونيو يهاجمونك الآن لكنهم من الداخل لديهم اعتقاد أنك ستعود إلى الطريق الصحيح، وتطهر المجال السياسى حولك وتستمع إلى المخلصين وليس أهل الثقة من محدودى الموهبة، ستنجح بشرط أن تحصل على إجابة صحيحة للأسئلة التى طرحتها، وما زالت هذه وجهة نظر تحتمل الصواب وتحتمل الخطأ لأننى للأسف الشديد لست مثل معظم الكتاب والإعلاميين فى مصر الذين يمتلكون الحقيقة المطلقة.