الصباح
أحمد شوقى العطار
«ازدراء الأديان».. قانون «سيئ النية»
كما أن هناك قوانين سيئة السمعة فصلت لتمرر صفقات كبرى أو تتغاضى عن فساد أكبر، هناك أيضا قوانين سيئة «النية»، تحاكم الناس على نواياهم التى لا يعلمها إلا الله، وأهمها المادة رقم 98 من قانون العقوبات التى تنص على معاقبة - بالحبس أو الغرامة - كل من استغل الدين فى الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف الدينية المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية‏».
(1)
نحن أمام جريمتين تنص عليهما المادة 98، الأولى هى إثارة الفتنة والإضرار بالوحدة الوطنية، وهو فعل واضح لا لبس فيه، يمكن إثباته ورصده ويستحق مرتكبه العقاب لا شك فى ذلك، أما الثانية هى ازدراء الأديان السماوية، وهنا نتوقف قليلًا، فمصطلح «ازدراء الأديان» فضفاض لا يمكن تطبيق القانون عليه، وهو رأى اتفق عليه العديد من علماء الدين، أبرزهم د. آمنة نصير التى ترفض القانون برمته وطالبت بإلغائه.
المزعج فى الأمر أن مؤسساتنا الدينية تتجاهل الجريمة الواضحة التى لا لبس فيها كإثارة الفتنة الطائفية فى وقائع مثبتة بالصوت والصورة وواضحة وضوح الشمس، وتتشبث بمحاكمة من يفكرون ويطرحون آراءهم للمجتمع دون أن يتورطوا فى أى إهانة أو سب لأى معتقد، وتنكل بهم وتقاضيهم وتطاردهم بتهمة ازدراء الدين حتى يصمتوا للأبد.
والدليل على ذلك أن مؤسساتنا الدينية، وكل من ادعى أنه من حماة الدين والفضيلة تجاهلوا محاكمة ياسر برهامى وأبو إسحق الحوينى وباقى شلة الدعوة السلفية بتهمة إثارة الفتن الطائفية أو ازدراء الأديان.
وتجاهلوا زكريا بطرس القس الذى لفظته الكنيسة بتهمة إثارة الفتن وازدراء الدين الإسلامى على شاشة قناة الحياة التى تبث من الخارج.
وتجاهلوا الأزهريين وشيوخ الدولة المعتمدين - بعضهم أباح إرضاع الموظفة لزميلها فى العمل - وقساوسة الكنيسة - أحدهم قاد مظاهرات طائفية فى 2011 - والذين تورطوا فعليًا فيما يمكن أن نسميه بإثارة الفتنة الطائفية، وازدراء الأديان.
وعلى الجانب الآخر تقدموا بدعاوى ضد فاطمة ناعوت التى صرحت بعبارات لاتخرج عن إطار الرأى المنشور على صفحة خاصة بموقع تواصل اجتماعى، ويحاربون إسلام بحيرى الذى حاول تفنيد كتب التراث ودعا لتجديدها، حتى لو اختلفنا مع بحيرى فيما يقوله أو رفضنا أسلوبه الفظ إلا أن مواجهة بحيرى بالفكر - كما فعل على الجفرى - تكفى لإنهاء الأزمة التى افتعلها الأزهر دون اللجوء لمقاضاته لمجرد أنه أدلى برأيه وطرح أفكاره.
ثم وصلنا فى نهاية الأمر إلى مرحلة يرثى لها عندما سكت الجميع على حبس 5 أطفال بالمنيا لمدة خمس سنوات بتهمة ازدراء الدين.
إذن القانون يطبق على ناس وناس لأ.
والمؤسسات الدينية تنتقى من يحاربونهم والقانون لا يطبق على الجميع.
(2)
مادة ازدراء الأديان أعطت للأزهر والكنيسة حقًا يكفله القانون فى نصب محاكم تفتيش لنوايا المجتمع، لتنتقى من تشاء وتحمله تهمًا لم يرتكبها بدعوى حماية الدين من الازدراء، وحتى لو أقسم المتهم بازدراء الأديان بالمصحف والإنجيل ومزامير داود على أنه لا يقصد الإهانة أو الازدراء وأنه يفكر فقط، ويبدى رأيًا - كفاطمة ناعوت مثلًا- لن ترحمه سيوف المؤسسات الدينية وحماة الدين التى تطال الجميع، ولما كانت مسألة التكفير ليست بالأمر الهين، احتاط الشرع فى إطلاقها احتياطيًا شديدًا فأوجب التثبت ووضع لها شروطًا أهمها أن يعلن الكافر بالدين كفره أمام الجميع ولا مجال هنا لخبراء البحث فى النوايا، فالأمر جد خطير.
كما أن المادة يستخدمها البعض فى التنكيل بالمختلفين عقائديًا وفكريًا من بهائيين وقرآنيين وشيعة رغم أن الدستور نفسه ينص على حرية الاعتقاد.
لماذا نسمح إذن بوجود مادة قانونية تعاقب من يفكر أو يعتقد ما يشاء دون أن يسىء لأحد؟
ثم ماذا عن تجديد الخطاب الدينى؟
(3)
فى القرون الهجرية الأولى واجه فلاسفة وأدباء الإسلام، أمثال ابن سينا والفارابى وابن رشد والجاحظ اتهامات بالكفر والزندقة، لمجرد أنهم فلاسفة استخدموا عقولهم لإعادة التفكير فى كل شىء، حماة الدين - بتوع القرون الأولى - طاردوهم واضطهدوهم وحرقوا كتب بعضهم، واعتبروهم زنادقة ودعاة كفر وطبقوا عليهم قوانينهم الخاصة، كما نطبق الآن قوانين على المفكرين والأدباء بدعوى ازدراء الأديان.
الحقيقة أن الأزهر الشريف - بعد مرور مئات السنين- لا يعتبر الفلاسفة الأوائل كفارًا، كما اعتبرهم السلف، أحمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر يؤكد أن الأزهر يصنف الجاحظ وابن رشد وابن سينا والفارابى ضمن علماء الأمة، ويتعلم من تراثهم ويعلمه لطلابه وأن تكفير هذه النخبة من العلماء الأجلاء اندثر مع مرور الزمن بعد أن اتضحت رؤياهم وأفكارهم للجميع، وأن أبناء السلفية الوهابية هم فقط من يكفروهم حتى الآن، وأن الدين لا يكفر أبدا الفلاسفة والأدباء والوهابيين فقط هم من يرون أن الفلسفة والعلوم الأدبية كفر.
إذن الأفكار تتغير بمرور الزمن، وما اعتبره السلف هرطقة نراه الآن فكرًا مستنيرًا، وهذا كافٍ جدًا لإلغاء هذه المادة أو تعديلها للحفاظ على ما تبقى لدينا من عقول تسعى للتجديد والتنوير، وبقاؤها على حالها هو أكبر ازدراء للدين نفسه إذا كان هناك أصلًا ما يمكن أن نطلق عليه «ازدراء الأديان».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف