كان يمشي مزهوا بنفسه.. يوزع الابتسامات والقبلات بحرارة مفرطة.. عرف كيف يفتح الأبواب الموصدة ويصل إلي الكبار وأصحاب المناصب والنفوذ.. لسانه حلو ومجامل.. لكن الغريب أن رائحته دائما كانت كريهة.. يلبس أفخم الثياب ويضع أغلي وأفخر الروائح التي تحمل ماركات عالمية.. ومع ذلك كانت رائحته الكريهة تفوح في كل خطوة يخطوها.. وفي كل مكان يتواجد فيه.. كان مجرد دخوله المكان نذيراً بانتشار الرائحة المنفرة التي تزكم الأنوف.. وتنبيء عن عفن وفساد.
ورغم ذلك كان هناك أناس لا يشمون.. هؤلاء استطاع أن يجذبهم ويغريهم بمظهره المصطنع وأناقته الكاذبة مع أنه علي درجة متواضعة من العلم والثقافة.. فتورطوا معه في علاقات عميقة متعددة المستويات.. بدأت بهدية وانتهت برشاوي من كل لون.. وبتلك القوة الناعمة نجح في أن يخترق أبواب الوزراء والمحافظين والقيادات الصحفية ويشدهم إلي عالمه.. ومع أنهم لم يكونوا بحاجة إلي هداياه ورشاويه لكنه استطاع أن يزين لهم الجريمة حتي أوقعهم فيها.. منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر.. منهم من انكشف أمره وحوكم ودخل معه السجن ومنهم من ستره الله في الدنيا ربما من أجل أولاده وأسرته وليجعل حسابه في الآخرة.
ولما خرج من السجن بعد أداء العقوبة كانت ملايينه المسروقة في انتظاره ليبدأ بها المشوار مرة أخري.. وبنفس الأسلوب.. الهدايا والرشاوي.. وأوقع في حبائله كثيرين من أصحاب المال والأعمال والوزراء والفنانين والفنانات والقيادات الصحفية.. ولمع اسمه من جديد.. واتسعت دائرته أكثر وأكثر.. وارتفع سقف طموحه حتي لامس قبة مجلس النواب وكاد يصل إليها لولا أن الله سلم.. فقد تعثرت قدماه في قضية رشوة كبيرة من أحد الوزراء ومساعده.. وكان فيها هو الوسيط الذي جمع بين الراشي والمرتشي.. كان هو الشيطان الخفي الذي زين للوزير أن يطلب بكثرة وأن يأخذ.. وعرف كيف يحتاط لنفسه فيسجل جميع الخطوات ويوثقها.. حتي إذا ما وصلت الجريمة إلي القضاء اعترف علي الجميع وقدم الأدلة فتحول موقعه في القضية من الشريك إلي الوسيط الشاهد وخرج من الجريمة كما تخرج الشعرة من العجين وأخرج معه الراشي بينما عاقبت المحكمة الوزير ومساعده بالسجن المشدد والغرامة وذلك بمقتضي المادة 107 من قانون العقوبات التي تقرر إعفاء الراشي والوسيط من العقوبة لمساعدتهما في اقامة الدليل علي الموظف العام الجاني في قضية رشوة.
وكان لافتاً للنظر أن المحكمة التي أصدرت الحكم توقفت عند هذه المادة 107 من القانون وطلبت من المشرع إعادة النظر فيها بعد أن استغلها الراشي والوسيط أسوأ استغلال للايقاع بالوزير وغيره من الذين ليسوا متمرسين في عالم الجريمة.. وقالت المحكمة في حكمها إن الإعفاء قد أصبح في السنوات الأخيرة رخصة ووقاية لطبقة جديدة من المجرمين ممن امتهنوا إفساد الموظفين العموميين. كبيرهم وصغيرهم. فاحترفوا جريمة الوساطة في الرشوة وهم علي يقين بأنهم سيفلتون من العقاب وطوق النجاة لهم مهما ارتكبوا من آثام متمسكين بالمادة 107 والاعتراف بالجرم.
والاعتراف ليس فضيلة بالنسبة لهؤلاء ولا إقراراً بذنب أو تحقيقاً للعدالة أو مصلحة عامة. ولكنه جزء من مخططهم الخبيث الذي رسموه سلفاً لارتكاب جريمتهم. فإن نجحوا في ارتكابها فقد حققوا ما أرادوا. أما إذا تم اكتشافهم وطالتهم يد العدالة فليس أهون عليهم من التضحية بشركائهم في الجريمة والاعتراف بها طلباً للنجاة.
والحقيقة أن الوسيط هو المتهم الأول لأنه صانع جرائم الرشوة والذي يسعي بين الطرفين بأساليبه الشيطانية حتي يتمكن من إغوائهما لتنفيذ أغراضه والاستفادة من كليهما بما يعود عليه بالنفع المادي اعتمادا علي الإعفاء الذي قررته المادة 107 والتي طالبت المحكمة باعادة النظر فيها حتي لا يظل هذا الوسيط وأمثاله بمأمن من العقوبة.. ولمنع خلق طبقة من المرتزقة الذين يحترفون افساد الموظفين العموميين لتحقيق مآرب شخصية ومكاسب مادية.