الأهرام
عادل السيوى
رأس القتيــل
لماذا يبدو كل وجه يهل علينا مختلفا رغم تشابه الملامح بل وتطابقها أحيانا ؟ هل يحمل كل منا في ثنايا وجهه شيئا من سره الخاص. كتب دافنشي فى اوراقه «أن الوجه يفتح عبر العينين نافذتين للروح كي تطل من خلالهما على العالم، وهذا ما يجعلها ترضى بالبقاء داخل سجن الجسد المظلم» الوجه إذا هو إطلالة الروح، وهو لذلك أعلى مكان نتجلى فيه بكامل خصوصيتنا.وفيه تتجمع الحواس كلها وكأننا فى عاصمة حضورنا، فى الوجه يتحرر الرأس أيضا من ثقل كتلته، ليصبح سطحا مكشوفا بكامله للآخرين .وقد انشغلت كرسام بوجوه البشر لسنوات طويلة، والتداعيات التى يثيرها الوجه لا تنتهى، ولكننى أعتقد أن أهم رسالة يحملها الوجه الى من يشاهده هى الإعلان عن حقه الكامل فى الوجود، ولهذا السبب أكتب هنا عن وجهين بالتحديد وهما وجه الشهيد ووجه القتيل.

فى يناير الاستثنائي يبدو أن قيام الجسد وحضوره الكاسح قد حرر الروح، وانقذها من ترددها، فملايين الأجسام المتلاصقة بصوتها الهادر وثقلها فوق الأرض شحنت مصر بطاقة غير مسبوقة. تبدلت وجوهنا، وكانت إطلالة هذا الوجه الجديد مفاجأة مكتملة، وكأننا نسينا ما نحن عليه. بدا تألقنا مدهشا وكأننا نشاهد آخرين، أو نكتشف ما هو جميل فينا لأول مرة، شىء ما تلبس الوجوه كلها رغم تباينها، كانت وجوه الشهداء تسيطر آنذاك على المشهد، شباب قتلوا أمام أعين الناس، وأشعل موتهم وهجا لم نألفه، كانت مشاعرنا تغلف نظرتنا اليهم بهالات من صنعها. لم نتأملهم بوصفهم ضحايا أو مغدورين، كانت وجوههم أقرب الى وجوه الأبطال والقديسين فى الأيقونات، التى تقول لنا أن المعنى أهم من الوجود نفسه، وأن الإخلاص كامل العدد، وأن الدفاع عن الحق وعن الآخر يمكن ان يلتهم الخوف كله، هذه البسالة، لم تتركنا فى حالنا، كنا نحدق فى وجوههم الشابة ونريد أن نثبتهم فى الذاكرة بقوة، كانت الوجوه لكثرتها تفوق قدرتنا على حصرها، لم تكن الملامح المميزة لكل منهم هى الفيصل، وانما الحالة التى تصنعها صورهم، فالذى قدموه كان ينتشلنا بقوة من حساباتنا الصغيرة.

ما تلى ينايرمن تخبط كان كفيلا بتبديد هذا التألق النادر، ويبدو ان الضوء كان فى الأصل استحقاقا حصريا للنجوم وصناع القرار والمتنفذين، وقد اختطفه الناس للحظات ولذا توجب استعادته، وبهمة بالغة تم محو صور الشهداء من الجدران، وكما عاقبت الالهة فى الأساطير اليونانية برومثيوس سارق النار لأنه باح بسرها للبشر، عاقبت كل الأنظمة التى تلاحقت، من سرقوا الضوء ومن منحوه للناس، فاحتل الكورس الشعبى، ببساطة لم تكن على البال مقدمة المسرح، وشاهده الجميع، فى يناير لم يكن لوجوه المسئولين أية فرصة للحضور، وكأن عريهم قد انكشف فجأة، وقد أدركوا ذلك على الفور فآثروا الاختباء حتى تصطدم الآمال بالواقع.

بعد أن تم التغييب القصدى لوجوه الشهداء، وإبعاد الشباب عن المشهد، برزت وجوه من اختفوا عنوة ومن حجبتهم السجون ثم تلاحقت صور الضحايا برؤوسهم المهشمة، وعادت وجوه المسئولين تطل بابتسامات واثقة، هكذا أصبحت خيبة املنا مجسدة ماديا بلا رحمة أمام أعيننا. فرأس القتيل ثقيلة، وثقلها هوثقل الهزيمة نفسها عندما تصبح حضورا ملموسا ممتدا، كان وجه خالد سعيد المهشم ، قد حفر فى ذاكرتنا من قبل أخدودا عميقا، كان وجهه المشع ، مجازا صادما لذلك العنف الذى يتعرض له الفرد فى عالم مدبر بكامله، عالم أدمن القسوة ، كان وجه خالد هكذا وحده، برقة ملامحه وبالضوء الذى يلفه، صورة بليغة لهزيمة كل القيم الإنسانية الكبرى.

يقول هابيل أول قتيل مسجل لأخيه القاتل: «لإن بسطت يدك إلى لتقتلنى، ما أنا بباسط يدى اليك لأقتلك» والآية من سورة المائدة، الضحية هنا يعلن قبل موته أن السعى لقتله لن يجبره على التحول الى قاتل يطارده وجه القتيل. وجه القتيل ليس مادة للنظر، فما يمكن أن نراه هو صورته عندما كان حيا بيننا. وإذا حدقنا فى وجه القتيل سنرى فيه موتنا أيضا، وربما نرى ضمنيا تواطؤنا وعجزنا. أجسادنا لا تتحمل النظر الى مشاهد تهتك الأعضاء وجروحها، ولذا تشيح العين لا إراديا عن مشهد الدم النازف ومن عمق اللاوعى يغلق الجسد العين كى لا ترى الأشلاء، الاغماءة هى حيلة الجسد لإيقاف العقل، ستار لا إرادى يسقط وإظلام مؤقت. وقد لمس شاعر شعبي مجهول هذا المأزق بعبقرية خالصة، وهو يرثى شهداء دنشواى عندما قال «يوم شنق زهران كان صعب وقفاته... أمه تلالى فوق السطح وأخواته».

ويبقى السؤال لماذا لم يوقف الوجه الانسانى بضعفه ورهافته وابتساماته تاريخ القتل. ولماذا رغم تطور النظم السياسية لم تتخل أى سلطة عن العنف؟ العنف الفردى ودوافعه ليس ما يشغلنا هنا، ما يدهشنا بالفعل، هو أن كل محاولات توطين الاخلاق داخل السياسة كانت مثل الرغبة فى تمرير جمل من ثقب الأبرة، فالذات أوالشخص بكل تفرده واستحالة تعويضه، بكل أحلامه وأهله ومحبيه، يتحول عند السياسي الى رقم أو حالة. ولا أعتقد أن نظرة القتيل تطارد هذا النوع من القتلة، فهو لا ينظر أصلا الى وجه ضحيته ولا الى وحدته المؤلمة. الأخلاق هى مادة تعتمدها الأنظمة للدعاية فقط، والطغاة لا يفكرون فى حجم الإثم، ولا يترددون فى طلب المزيد، إلا إذا ولدت هذه الممارسات مقاومة شرسة بدلت التوازنات، أوانكشفت فهزت صورتهم، فالخطف والتعذيب والتصفية ستظل ممارسات توليها الأنظمة محبة خاصة. صور القتلى هى وسيلة للردع فى الأساس، ولكن تكرارها، ينفذ الشعور بالخطر الى الجماعة بأكملها ويولد ردودا غريزية للنجاة، وعنفا مضادا، ومسئوليتنا جميعا أن نوقف الانحدار الى هذا الدرك المخيف.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف