أحمد الصاوى
أهل الفطرة وأهل التبرير.. في مسألة تيران وصنافير
فى الجدل الحاد على خلفية إعلان الحكومة المصرية التخلى عن جزيرتى "تيران وصنافير"، الواقعتين بمدخل خليج العقبة، يمكنك أن تفرز قطاعات أساسية من المصريين؛ وفق ردود أفعالهم المباشرة بمجرد سماعهم هذا الخبر.
لم يعتقد المصريون المعاصرون على الأقل أن هناك نزاعًا أو خلافًا حدودىيًّا على أرض بين مصر وجيرانها، إلا في ما كان يخص قضية "طابا" مع إسرائيل، وقضية "حلايب وشلاتين" التى يثيرها السودان بين حين وآخر.
على العكس ظلت جزيرتا "تيران وصنافير" جزءًا من التراب الوطنى، يدرسها الطلاب فى المدارس كنموذج للجزر المصرية فى دروس الجغرافيا، كما يدرسها آخرون فى التاريخ، باعتبار أن إغلاق مضيق "تيران" فى وجه السفن الإسرائيلية، كان الشرارة المعلنة لحرب 1967، ووقتها احتج الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى تبرير قراره بأن المضيق كله يقع فى الحدود المصرية وفى مياهها الإقليمية، ويستمتع بها وبمحيطها رواد منتجع شرم الشيخ، الذين يرونها رأى عين من على ساحل لا يبعدها عنها ما يبعدها عن الساحل السعودى.
لكن هذا المقال لا يتعرض للجدل حول ملكية الجزر، لا يعرض وثائق ويدعم انحيازًا، إنما يلتزم التزام "مقال صالح" بتوجيه الرئيس السيسى "أو أوامره أو تهديده" بأنه "مش عاوز كلام فى الموضوع ده تانى"، وهو يقصد طبعاً الكلام فى مسألة هل الجزر مصرية أم سعودية؟
هذا المقال إذن يتحدث عن الناس، وليس الجزر، وهنا أريد أن أسألك: ما رد الفعل الطبيعى والمنطقى والفطرى كمواطن فى بلد ما حين تعلم "فجأة" أن قطعة من بلادك ليست ملك بلادك وأنها لا بد أن تعود من حيث جاءت؟
الطبيعى أن تتعجب، وتندهش، وتُصدم، وتنزعج، ثم يذهب بك ذلك إلى مسارات مختلفة، إما أن تغضب غضبًا عارمًا وتنطلق بعاطفة كبيرة لتخوين الرئيس والحكومة وكل من شارك فى هذا التنازل، خصوصًا أنك تربيت كما قلت لك على أن حدود مصر ثابتة لم تتغير منذ سنوات، وكل قطعة أرض فى حدودها الحالية خالصة لها.
أو أن تنال نصيبك من الدهشة ثم تصبر على انفعالك قليلاً لتفهم، وتأخذ وقتك فى هذا الفهم، فتطالع هذه الأسانيد وتلك، وتقرأ بعناية بيان الحكومة الشارح، والمخاطبات التى تدعم سعودة الجزر، وتلك الوثائق التى تدعم مصريتها، ثم تقرر انحيازك، حسب فهمك، وقد يأخذك هذا الفهم إلى الاقتناع بأن للسعودية بالفعل حقًّا فى الجزر، أو قد يعزز قناعتك بأن الجزر كانت وما زالت ولا بد أن تبقى مصرية ثم تبنى فعلك حسب ما انتهى بك الفهم.
هذا هو السلوك الطبيعى.. المصريون من أهل الفطرة السوية السليمة لا بد أنهم انزعجوا أو اندهشوا أو تملكتهم الصدمة، منهم من بقى على صدمته، ومنهم من هبطت ثورته وسلم بما تطرحه الحكومة، لكن كيف يمكن أن تصف من لم يظهروا ذرة دهشة أو انزعاج أو صمت للفهم، وسارعوا بالتبرير حتى قبل أن يصدر بيان الحكومة الشارح لما استندت إليه فى قرارها الذى يعترف بملكية السعودية للجزر؟
هؤلاء إذن خارج سياق الفطرة الوطنية والإنسانية الطبيعى تحت أى معيار، وإذا كان الرئيس السيسى دعا علماء الاجتماع لدراسة ظاهرة زيادة مناخ التشكيك فى مصر، فهؤلاء العلماء مدعوون بالأساس لدراسة ذهنية مواطنين مصريين لم تحرك أى فطرة فيهم لحظة انزعاج أو عدم ارتياح، ولم تدفعهم إلى كسب الوقت لمجرد الادعاء
بأنهم أنفقوه فى الفهم ثم خرجوا بآرائهم، لأن كل الملابسات تجعل المألوف أن يسارع المواطن العادى الطبيعى جدًّا إلى التشكيك أو الاستنكار أو الصدمة، لكن كيف يسارع آخرون باليقين فى قضية بهذه الحساسية ذات علاقة بأرض الوطن وحدود ترابه الذى دفع هذا الشعب من أجل الحفاظ عليه من دمه وقوته وأحلامه؟
لا تفسير منطقيا لهذا السلوك غير أن هؤلاء المسارعين بالتبرير، على تشابه تبريراتهم اللاحقة فورًا للإعلان الحكومى، ما هم إلا أبواق تلقت تعليمات من السلطة المصرية، أو "السعودية" للتحرك الفورى فى الرد على استنكارات لم تكن قد بدأت بعد، بما يعنى أن تبريراتهم كانت سابقة التجهيز، "الله وحده يعلم أين جرى تجهيزها"، ومن ثم لا يمكنك التعامل معهم باعتبارهم أصحاب رأى أو أفكار، لأن الواضح أمامك أنهم لم يمنحوا أنفسهم أى فرصة للتفكير وبناء موقف، لذلك يبقى هؤلاء مجرد أبواق وظيفية لا أكثر، تنفذ ما يُطلب منها كل حسب آلية تجنيده أو ترغيبه، فكما تعرف لا يستوى من يكتفى بالقسم بحياة أولاده أن الجزر سعودية، بمن أعرب عن استعداده أن يذهب لآخر العالم وأن يشهد مع السعودية فى أى محكمة دولية ضد بلاده، لأن لكل مستوى من مستويات التضامن مع "خلع" الجزر من جسد الوطن آلية ترغيب وتحفيز.
ضع هؤلاء جانبًا إذن ولا تنشغل بهم كثيرًا.. لأن الأنسب أن يدور هذا النقاش والجدل بين أهل الفطرة السوية وحسب، الذين تشاركوا فى الدهشة والانزعاج أولاً، ومنهم من بقى منزعجًا مصدومًا ورافضًا، ومنهم من تضاءل انزعاجه وأعلن قبوله، أما من هم خارج هذه الدائرة، فمجرد "أبواق برخص"، لا تدخل معهم نقاشًا ولا جدلاً حتى لا يضع "مناهدتك" معه فى كشف إنتاجه.
"يولد المصريون على فطرة تقديس حدود الوطن.. لكن طبائع البعض تغلب القداسة".. ولله فى خلقه شؤون.