د. نصر محمد عارف
الانفلات السياسى والمصلحة الوطنية العليا
قد لا يذكر التاريخ أن الشعب المصري قد شهد حالة من الانفلات على جميع الاتجاهات مثل التي يشهدها هذه الأيام، ولم يحدث في تاريخ مصر حالة من الانفلات، الأخلاقي والإنساني إلا تلك التي ذكرها المقريزي (المتوفى 1442م) في المجاعات والكوارث الطبيعية الكبرى التي أكل فيها المصريون لحوم البشر.
ولم تشهد مصر ارتباكاً في تحديد المصلحة الوطنية العليا مثل التي نراها بأم أعيننا الآن ة لقد دخل الشعب المصري في برج بابل، وتبلبلت أفكاره، وتشتتت ألسنته، ولم يعد يفهم بعضهم بعضاً؛ وكأنهم يتحدثون لغات مختلفة، ولم يبق إلا أن تكتمل فيهم أسطورة برج بابل فتنصب عليهم لعنة الشتات في الأرض.
لقد رُفعت مع ثورة يناير 2011 شعارات عديدة، ومثلها مع ثورة 30 يونيو 2013، ولكن لم يتحقق في الواقع ويستمر ويتعمق إلا شعارٌ واحد هو زالانفلاتس؛ الذي تحقق في البداية على مستوى الأمن، فكان الانفلات الأمني، ثم في الأخلاق والقيم، وأخيرا في السياسة، فرأينا حالة الانفلات السياسي الكاملة في قضية الشاب الإيطالي، وفي اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في خليج العقبة.
والانفلات هو فك العقال، والعقال منه يُشتق العقل، فالانفلات هو ترك العقل، أو إلغاء العقل، ونزع العقال عن فكر الإنسان وسلوكه؛ بحيث يتحول الإنسان إلى جمل أو ثور هائج يجري في كل اتجاه، ويخبط خبطاً عشوائياً في كل شئ، وعلى المستوى الجماعي يكون الانفلات هو الفوضى الكاملة، والعبثية المكتملة، التي يكون من نتيجتها تدمير كل شئ؛ بدون وعي، وبدون إحساس، أو حساب للعواقب.
كان مفهوم المصلحة الوطنية العليا من المفاهيم الراسخة في عقل ووجدان الشعب المصري، بل إن مفهوم المصلحة العربية العليا لم تكن واضحة جلية لدى أي شعب عربي مثل وضوحها عند المصريين، والشاهد على ذلك الرفض الشعبي التلقائي المستمر للتطبيع مع الكيان الصهيوني، على الرغم من تحرير كامل التراب المصري، وذلك لإدراك العقل الجمعي المصري أن هناك أراضي عربية لم تزل محتلة من ذلك الكيان، في الوقت الذي سارعت للتطبيع شعوب أخرى في فترات زمنية قصيرة لا تقاس بالمدة التي بدأت فيها مصر علاقات سياسية مع إسرائيل.
المصلحة الوطنية العليا هي التي كانت تدفع المصريين للالتفاف حول الدولة في أوقات الأزمات، هي التي دفعت جموع الشعب أن تتحرك بتلقائية حين تحمل الرئيس جمال عبدالناصر مسؤولية الهزيمة وتنحى عن السلطة، حينها تحرك الشعب كل الشعب يرفض الاستقالة، لأن المصلحة الوطنية العليا تستلزم بقاءه في تلك اللحظات، ولم يطالب أحد بمحاسبته عن مسؤوليته عن الهزيمة، أو عن دماء الشهداء، أو عن حقوق الثوارة.الخ، من مطالب مازالت تستخدم كقميص عثمان لإرباك مصر، وإدخالها في حالة صدام داخلي مستمر، الكل يحارب الكل من أجل أي شئ وكل شئ، المهم أن يكون هناك طرف يتهم وآخر متهم.
لو كان هناك من يدرك مفهوم المصلحة الوطنية العليا من الكتاب والإعلاميين، والنشطاء السياسيين، ومرتزقة منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان لما سارعوا إلى اتهام حكومتهم بقتل الشاب الإيطالي، لا لشئ إلا بدافع غريزة الانتقام والتشفِّي من أجهزة الأمن، وللحقيقة والتاريخ فإن أجهزة الأمن مازالت تستعدي المصريين وتمارس ضدهم ما يجعلهم يكرهونها، ولكن إدراك المصلحة الوطنية العليا كان كفيلا بأن يحول دون استعداء الأجنبي لينتقم للمصريين من مؤسساتهم الوطنية، إدراك المصلحة الوطنية العليا كان كفيلا بأن يجعل مفهوم الوطن حاجزاً دون تصدير أزماتنا إلى الخارج ليتم معاقبتنا بها جميعا، تكرر ذلك قبل ذلك مع الطائرة الروسية، وتكرر بعدها مع زيارة الملك سلمان، حتى إن نجاحات تلك الزيارة لن تكتمل مع هذه الأجواء المشحونة بكل أنواع التفكير الغرائزي المنفلت من كل عقال أو عقل.
غابت المصلحة الوطنية العليا مع حالة الانفلات السياسي التي تعيشها مصر، فلم يعد هناك مفهوم سياسي متفق عليه، أو عليه إجماع وطنى ، ويكفي أن تشاهد كل يوم واحداً من مقدمي برامج التليفزيون على القنوات الخاصة يتكلم إلى رئيس الدولة، أو رئيس الوزراء، أو أحد الوزراء وكأنه يعمل تحت إدارته هو شخصياً؛ فيأمره وينهاه، ويتطاول عليه، وأحياناً يستخدم ألفاظاً تصل إلى حد السباب، لقد تحول ذلك المذيع الأغر إلى دولة في ذاته وكأنه لويس السادس عشر.
حالة الانفلات السياسي بدأت مع الانتخابات الرئاسية التي تلت ثورة يناير 2011 حين ترشح لمنصب رئيس مصر أى شخص، حتى وصل عدد من ذهب ليسحب أوراق الترشيح إلى مئات من المصريين الذين لا يصلح بعضهم لإدارة شئون نفسه، حينها سقطت هيبة المنصب، ومعها هيبة الدولة وقدسيتها. هذه الحالة العبثية لا تجدها في أي مكان في العالم الذي سبقنا في التقاليد الديمقراطية، فلم نسمع أنه ترشح لمنصب رئيس أمريكا مثلا من لا تتوافر فيه كل شروط النزاهة والقيادة، وكانت نتيجة تلك الانتخابات أن فاز رئيس أجهز بسلوكه غير المنضبط - سواء السلوك اللفظي أو السلوك المادي - على ما تبقى من هيبة المنصب ومكانته، وهيبة الدولة وقدسيتها في نفوس مواطنيها، إلى أن وصلنا إلى حالة يظن فيها كل مصري - مهما بلغ مستواه العقلي أو التعليمي - أنه قادر على أن يدير مصر، وأنه الأقدر على تحديد مصالح مصر، وأنه الأجدر بمنصب القيادة، والأكثر مناسبة له، ولذلك فهو يعترض على كل قرار لأنه يرى في نفسه القدرة على أن يتخذ أفضل منه.
هذه الحالة من الانفلات السياسي لا يمكن أن تتحرك معها مصر خطوة للأمام، ويستحيل أن يتم في ظلها تقدم ولا تنمية ولا تعمير، ولا خروج من حالة الانحطاط التي نعيشها منذ أربعة عقود، يستحيل في ظل هذه الحالة أن يكتمل أي إنجاز، لأنه سيخرج من يشوهه، ويحوله إلى فشل، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الفوضوي تتحول حالة الانفلات السياسي إلى احتراب سياسي دائم لن ينتهي، لأن هناك من يريد أن يستغل هذه الحالة لإسقاط النظام؛ حتى وإن قاد ذلك إلى انهيار الدولة وسقوط مصر.
لا سبيل أمام مصر إلا أن يلتقي العقلاء فيها لوضع حد لهذه الحالة؛ حتى وإن أدى ذلك إلى فرض قيود على وسائل التواصل الاجتماعي، وضوابط صارمة على فضائيات رجال أعمال عصر الانفتاح، وقواعد للممارسة السياسية للأحزاب، كل ذلك لابد أن يتم ضمن أطر القانون وبضوابطه ومن مصادره.