أشرف الصباغ
«تيران وصنافير».. المسألة ليست ملكية بل أكبر بكثير!
من الصعب أن تستيقظ لتجد أن رئيس الدولة قد وقع قرارا بالتخلي عن جزء من أرض الدولة.. ولكن من جهة أخرى، تتحدث الحكومة عن أنها تناقش موضوع جزيرتي "تيران" و"صنافير" المصريتين، مع السعودية طوال السنوات الأخيرة، أي ببساطة، اعتبرت الدولتان أن هذه المباحثات يجب أن تكون سرية، وأن يكون القرار مفاجئا على طريقة الصدمات الكهربائية.
الحديث يدور الآن عن أن الرئاسة المصرية تبحث حاليا عقد لقاء موسع بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وبين شخصيات سياسية وعامة وقيادات حزبية مصرية، وسيتركز اللقاء علي إقناع الحضور بتنازل مصر عن الجزيرتين المصريتين للسعودية، من خلال إطلاعهم علي الموقف القانوني لموضوع الجزيرتين المصريتين، وأحقية السعودية فيهما!.
لقد مارس الرئيس المصري الضرب المباشر والمفاجئ "بالصدمة الكهربائية"، وقامت الحكومة ووزارة الخارجية بتبرير القرار ودافعتا عنه عبر كلمات منمقة ترتكز على العدل والحق، وإعادة الأمانات إلى أهلها، غير أن إيصالات الأمانة لم تكن موجودة، وظهر بدلا عنها خرائط قديمة وجديدة متناقضة، وشهادات تحتاج إلى تدقيق، كل ذلك في غياب الخبراء والمتخصصين وعلماء الجغرافيا والتاريخ وخبراء الأمن الوطنيين، ومن الممكن أن نتساءل عن غيابهم، لأن الأمر كان يستدعي طرح الموضوع أولا على وسائل الإعلام والرأي العام: فأين أجيال الجغرافيين والمؤرخين المصريين؟ وهل نتذكر جميعا عندما كان، وما زال الكلام يدور حول "تجريف" مصر؟
لقد خرَّجت الجامعات المصرية طوال عقود جغرافيين ومؤرخين ومتخصصين في تاريخ وجغرافيا بلادهم ومواردها البشرية، ومن المؤكد أن المئات والآلاف منهم لم يتمكنوا من السفر إلى خارج مصر، أو رفضوا السفر، لكن الغالبية العظمى منهم، ونتيجة للمرتبات الضئيلة والمخزية وضيق ذات اليد، سافروا من أجل إعالة أسرهم وتحسين أحوالهم المادية. وفي الحقيقة توجه هؤلاء الناس إلى دول الخليج، وبالذات إلى المملكة العربية السعودية، وكان من المفروض أن يقضوا مدة إعارتهم ٤ أو ٦ سنوات ويعودوا، وهناك من أنهى المدة وعاد بالفعل، ومنهم من قام بتمديد الإعارة، ومنهم من استغنى أصلا عن مكان عمله في مصر وقرر أن يكمل في السعودية أو في غيرها، فهل يمكن أن نتصور أن يخرج أحد من هؤلاء الآن ليتحدث عن جغرافيا مصر وتاريخها؟ هل تتصور أن هؤلاء الناس قادرون على مخالفة نظام العمل هناك، ليخرجوا من أجل الحديث عن "تيران" و"صنافير" بشكل لا يتفق مع توجهات السعودية؟ وهل نعتقد أن الذين عادوا بعد سنوات طويلة قضوها هناك، يمكنهم أيضا الحديث عن تيران وصنافير؟ إن أقل ما سيقال لهم: "إنتوا بتشخوا في الطبق اللي أكلتوا منه، يا خونة ياللي اتمتعتوا بخيراتنا وأخدتوا فلوسنا ورايحين تضربونا في ضهرنا"!
في نفس سياق الحديث السابق لا يمكن أن نتجاهل الأجيال المصرية التي تربت وعاشت وتعلمت هناك لعشرات السنين، إضافة إلى جيوش الصحفيين والإعلاميين إما الصامتون تماما أو الذين يؤكدون سعودية الجزيرتين دون أن يمتلكوا أي وثائق، إن مصر وجامعاتها خرَّجت أجيالا من الجغرافيين المصريين والمؤرخين الوطنيين الذين يعرفون طبيعة بلادهم وتاريخها وتاريخهم، ولكن لا وجود لهم في هذه القضية كما نرى.
وإذا ابتعدنا قليلا عن كارثة التجريف في الداخل المصري، فسنكتشف أن مثل هذه القضايا لا تحسم خلال عام أو اثنين أو عشرة وعشرين. إنها قضايا طويلة الأجل تعتمد على أوضاع اقتصادية وسياسية وتوازنات قوى، وليس لها أي علاقة إطلاقا بالحق والعدل، إننا نتحدث عن سياسات واستراتيجيات وتوازنات قوى ونفوذ وتأثير، وعندما يدور الحديث عن جزر وممرات مائية، فالحديث يصبح أكثر جدية وخطورة، نظرا لأهمية الممرات المائية حاليا وعلاقاتها بنقل موارد الطاقة، والصراعات الإقليمية والدولية على طرق الترانزيت. وبالتالي، فقصر الحديث على الملكية والسيادة، كلام غير دقيق وديماجوجي، كما أن اختزال الأمور في مصطلحات ليس لها علاقة بالسياسة والاستراتيجيات، من قبيل "الحق" و"العدل" و"رد الأمانات"، هو اختزال مخل وغير مناسب على الإطلاق.
هناك أمثلة كثيرة مختلفة ومتنوعة، منها جزر فوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين، وجزر الكوريل الأربه بين روسيا واليابان، وشبه جزيرة القرم بين روسيا وأوكرانيا، ولواء الإسكندرونة بين تركيا وسوريا، وسبتة ومليلة بين المغرب وإسبانيا، وعشرات الأمثلة الأخرى.. فهل فعلا، تم إضعاف مصر إلى تلك الدرجة التي تتنازل فيها عن جزيرتين استرتيجيتين لدولة أخرى، مهما كانت هذه الدولة، مهما كان المقابل المادي؟
إن نجاح الرئيس عبد الفتاح السيسي في تمرير عملية التنازل عن "تيران" و"صنافير" المصريتين، سيقود حتما إلى الإعلان الرسمي، لاحقا، عن تحالف النظام السياسي مع تنظيم الإخوان المسلمين تحت مسميات مختلفة، وقد يقود إلي مصالحات مصرية مع دول أخرى مثل قطر وتركيا بشكل من المشكوك فيه أن يكون لصالح المصالح الوطنية المصرية. هذه الأمور لن تتم في المدى المنظور، وإنما على المديين المتوسط والبعيد.
ومن جهة أخرى، فتمرير عملية التنازل سيطلق يد الرئيس السيسي في تغيير المشهدين السياسي والتشريعي في داخل مصر وإحكام قبضة النظام السياسي - الديني لعشرات السنين المقبلة بنفس وتيرة الرجعية والتخلف والحفاظ على مصالح طواغيت المال، والإضرار بمصالح البلاد العليا، وإضعافها أمام ضربات الإرهاب الذي لم يعد يتعلق بدولة محددة، وإنما أصبح مرتبطا بتحركات إقليمية ودولية، وتتداخل فيه أوراق سياسية وجيوسياسية كثيرة، ناهيك بمصالح شركات السلاح والصراعات في مجالات الطاقة المختلفة وطرق نقلها والسيطرة الكاملة على منابعها.
إن محاولات تنظيم الإخوان والتنظيم الدولي طرح شعارات حادة ونهائية وقاطعة، وعالية السقف، تهدف بالدرجة الأولي إلى خداع الرأي العام ودفع القوى الوطنية المصرية إلى مغامرات ستؤدي ليس بالضبط إلى عودة الإخوان إلى السلطة، بل لتحسين شروطهم في التفاوض مع النظام وتهديده باستخدام تلك القوى الوطنية، مثلما حدث بعد ٢٥ يناير. ولا يمكن هنا أن نتجاهل أن التنظيم الدولي وتنظيماته الفرعية لا تزال تتلقى دعما غير بسيط من دول كثيرة.
قد يقفز الإخوان المسلمون على أي حراك شعبي، أو على تحركات للقوى الوطنية المصرية، وهم يفعلون ذلك بطرق مختلفة. ولكن تجربة ثورة يناير علَّمت القوى الوطنية والشعبية بعض الدروس التي يجب الاستفادة منها الآن، فهل القوى الوطنية والشعبية لديها بدائل قادرة على القيادة، أم سيتسلم الإخوان المسلمون الراية، لا للحكم، وإنما لتحسين شروط تفاوضهم مع النظام وتكرار المأساة بشكل آخر وبتفاصيل أخرى؟
النظام السياسي وتنظيم الإخوان يواصلون الشد والجذب والمغازلة والمواجهة في نسق كلاسيكي يصلح لأفلام الكارتون من أجل صغار السن. ولكن الدروس والخبرات المتراكمة لدى القوى الشعبية والوطنية كفيلة بفضح وإفساد هذه المماحكات والمواجهات الشكلية والصراعات الصبيانية المراهقة، والتأكيد على عدم صلاحية الطرفين لحكم البلاد بما يتناسب مع متغيرات وتحولات القرن الحادي والعشرين حيث يتسم كل منهما بالمحافظة شكلا، وبالرجعية من حيث الجوهر، ويعادي كل منهما مصالح الغالبية العظمى من شعب تعداده (١٠٠ مليون نسمة)، بل ويصر الطرفان على إقرار الأمر الواقع وتكريسه لبث المزيد من الانقسام ومنع القوى الوطنية والشعبية من ترتيب صفوف المجتمع للنهوض بالدولة.
هذا الكلام ليس دعوة للإحباط أو التشاؤم، بقدر ما هو نظرة هادئة للأمور، وتحفيز لكل القوى الوطنية والشعبية لتحقيق أفضل ما لديها، والإصرار والمضي قدما ليس فقط في طرح رؤيتها لمستقبل مصر والمصريين، بل ولتحقيق ذلك بعيدا عن التخلف الديني والاجتماعي والرجعية والاستبداد.
قد نختلف أو نتفق على هذه الرؤية. ولكن يجب أن نتعامل بتفكير هادئ، وعقل بارد مع التغيرات والتحولات حتى لا نكرر الأخطاء ونقع في فخ النظام أو التنظيم، أو بالأحرى فخهما معًا!