نطالب بالإفراج الفوري عن عشرات المحتجزين في مظاهرات الاعتراض علي اتفاقية رد جزيرتي «تيران» و»صنافير» للسيادة السعودية، وإخلاء سبيل الشباب السلمي المدفوع بالحماس الوطني، و»تبييض السجون» من آلاف المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب المباشر، فالتظاهر السلمي ليس جريمة، بل حق دستوري، والدستور ينص علي حق التظاهر بمجرد الإخطار، وليس بتعقيدات وعقوبات قانون التظاهر المطعون عليه أمام المحكمة الدستورية العليا، والذي كان سببا في احتجاز عشرات الآلاف، وخلق حالة احتقان سياسي واجتماعي لا لزوم لها.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فنحن نرحب أيضا باستعداد الرئيس السيسي المعلن لتشكيل «لجنة قومية» تبحث قضية الجزيرتين، وقد سبق أن اقترحنا تشكيل اللجنة قبل وبعد لقاء الرئيس بعدد كبير من الإعلاميين والنقابيين والنواب، وقد كنت أتصور أن ينطوي اللقاء علي حوار، لكن الوقائع والترتيبات مضت في اتجاه آخر، وفي حوار «علي الواقف» مع الزميلين الأستاذين ياسر رزق ووائل الإبراشي، قلت إن المطلوب هو تشكيل لجنة علمية مستقلة، ثم أعدت تكرار وتفصيل الاقتراح في مداخلات تليفزيونية عقب اللقاء يوم الأربعاء 13 أبريل 2016، وفي مساء الخميس مع ظهور مقالي الافتتاحي بجريدة «صوت الأمة»، ثم بعدها في اليوم نفسه عبر برنامج تليفزيوني للزميلة الأستاذة رشا نبيل، ثم ألححت علي الاقتراح نفسه في برامج تليفزيونية يومي الجمعة والسبت اللاحقين، وخلاصة الاقتراح غاية في البساطة، وهي تشكيل لجنة قومية متخصصة من ثلاث جمعيات علمية عريقة مستقلة، هي «الجمعية الجغرافية المصرية» و»الجمعية المصرية للدراسات التاريخية» و»الجمعية المصرية للقانون الدولي»، تشمل الخبرات الأساسية اللازمة لبحث قضية الجزيرتين، وترسيم الحدود بعامة، وعلي أن تحال إليها كافة وثائق وخرائط الدولة المتعلقة بالموضوع، وأية وثائق لآخرين، وكذا اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، ثم تصدر اللجنة تقريرها العلمي النهائي المنير للرأي العام، وبما يعين نواب البرلمان علي اتخاذ القرار الصحيح بالتصديق من عدمه، وبغير شبهات الخلط والالتباس ومعارك طواحين الهواء الدوارة.
وربما لا تكون القصة في شكوك وريب لا محل لها، فلا أحد صادق يتهم الرئيس ولا الجيش بالتفريط في ذرة من التراب الوطني المصري، وليس من مصري وطني واحد يقبل التفريط، والقضية الوطنية فوق أي خلافات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وقد توجد بعض الأطراف، من نوع جماعة «طظ في مصر» الإخوانية وأخواتها، تريد الاصطياد في الماء المعكر، لكن ذلك ـ علي بؤسه ـ مجرد جانب من الصورة، أما قلب الصورة الوطنية الشعبية فمختلف، فثمة فجوة ظهرت بين وثائق الدولة وعقائد سارية عند قواعد الرأي العام، الدولة بوثائقها تؤكد ـ بملء الثقة ـ أن الجزيرتين سعوديتان، وأنها كانتا في حوزة مصر علي سبيل الحماية والإدارة لا السيادة، وأن الحقيقة ظاهرة في كل وثائق وتعهدات الدولة المصرية، وفي كل العصور من العهد الملكي إلي الناصرية وحتي الآن، وكما في كل كتابات المرموقين الراحلين من وزن جمال حمدان ومحمد حسنين هيكل وحامد سلطان أستاذ أساتذة القانون الدولي في مصر، وكل هذا الكلام مفهوم، وقد يدعو للثقة المفترضة في سلامة التصرفات، لكنه لم يكن أبدا في علم الرأي العام الواسع، فعموم الناس لا يقرأون الكتب الثقيلة، ولا يشغلون بالهم بالوثائق التاريخية وتفاصيل الخرائط وتحولاتها، ولكن قر في ظنونهم شيء آخر، وعلي مدي قرابة سبعة عقود من تسلم مصر للجزيرتين عام 1950، وتردد علي مسامعهم اسم جزيرة «تيران» بالذات، سواء في مرحلة حروب مصر مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، أو بعدها في الإعلام ومناهج التعليم، وتراكم اعتقادهم أن جزيرة «تيران» مصرية، وليست لأي أحد آخر، بينما لم يكن اسم أختها جزيرة «صنافير» محفورا في الوجدان العام بالدرجة نفسها، وهذه الفجوة بين وثائق الدولة وعقائد الرأي العام، بدت ظاهرة ومثيرة للالتباس والحيرة والغضب في الشارع المصري، ومهددة بشروخ خطرة في الضمير الوطني، فليس مثل المصريين شعب في حرارة ارتباطه بأرضه المقدسة، ومن هنا وجب فك الالتباس المتفاقم مع صدمة المفاجأة وسوء التوقيت ورداءة الإخراج، وما من حل معقول لتبديد اللغط ومخاطره، سوي بتشكيل لجنة قومية علمية مستقلة، تبادر إليها الجمعيات العلمية ذات الصلة، أو يبادر إليها السيسي بحكم مسئولياته كرأس للدولة.
ونرجو ألا يستهين أحد بالقصة، فهي أخطر من أن نترك لحكومة عاجزة بالخلقة، يكرهها الرأي العام القلق اليقظ، وقد تحول إلي «خط أحمر» في سنوات ما بعد الثورة، ولا يمكن كسبه بغير اقتناع وطني جامع، وليس بدوس أعصابه ومشاعره، وتصور أن كل الأمور تنسي بعد حين، فلم يعد أحد ينسي أو يغتفر، وعلينا أن نتذكر أن رد الجزيرتين للسعودية قرار قديم، تطاول عمره إلي قرابة الثلاثين سنة، وأصدره المخلوع مبارك في صيغة نهائية أوائل العام 1990، وأبلغته الدولة المصرية رسميا إلي الأمم المتحدة، لكن ما منع مبارك من التنفيذ لم يكن موقفا وطنيا بحال، بل كان خوفا من رد الفعل الإسرائيلي، فقد كان حكم المخلوع ـ بشهادة العدو ـ أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل، وكانت «تيران» مشمولة بالمنطقة (ج) منزوعة السلاح بمقتضي الملاحق الأمنية لما يسمي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وقد نصت المعاهدة علي أن التزامات مصر تجاه إسرائيل تتقدم علي التزاماتها تجاه غيرها، أي أن التزامات مصر تجاه إسرائيل في «تيران» لها الغلبة، وتتقدم علي التزامات مصر برد «تيران» للسعودية، وهو ما ظهر منصوصا عليه في خطاب عصمت عبد المجيد وزير خارجية مبارك بخصوص الجزيرتين، ثم في موقف مبارك اللاحق الرافض لمشروع «الجسر البري» رعاية لمصالح إسرائيل.
ولا نريد لأحد أن يفتي بغير علم، فتوافر العلم شرط سلامة الفتوي في قضايا الأديان والأوطان، ولا تصح الفتوي في قضية الجزيرتين إلا من لجنة علمية مستقلة ومحايدة.