الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
ما أحوجنا إلى هدهد!
ماذا لو وقف باب الوطن (هدهد)؟، تماماً كما وقف بين يدى نبى الله سليمان عليه السلام حين كان (حاكماً نبياً). يمكن أن تراه اليوم (هدهداً) واهناً شاحباً ينادى بصوت موجوع خافت (جئتكم من مصر بنبأ يقين، إنى وجدت من كل الثغور فوهات شرٍ مصوبة نحو العقول، تشهر كل رصاصات الفتك بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وفى مواجهتها يقف المواطن مصرى مجرداً من كل درع تحمى أو ساتر يستر أو واقٍ عن المخاطر يعزِل)، ولكن صوت (الهدهد) ستواجهه موجات عاتية من الضجيج ما بين رفض لغير الاختصاص، وتسفيه لعدم إيقاع الخلق فى الالتباس، وإجماعٍ على كون الهدهد مصابا بفوبيا المؤامرة! ويأتينا من أحاديث السابقين أن «هدهد» نبى الله سليمان كان قد راح محلقاً يرقب تقلبات الأحوال حتى افتقده النبى، وحين آب «الهدهد» إلى مجلس النبى الملك، اتخذ موقع القريب المجِلِ لمن فى حضرته أصبح، فلا هو اقترب قبل أن يصرح بالسبب، ولا هو ابتعد حتى لا يقع دوائر من أقصاهم الغضب. قال (الهدهد) موضحاً (إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُون)َ(-آية 23و24 سورة النمل).

كان للمملكة التى يديرها ملك نبى صُنَّاعُ وعيها، فى توقيت كان الوحى يربط الأرض بالسماء، ويملك رب الوحى أن يحيل كل حدث على البسيطة إلى (نبأ وحي) يتلقاه (النبى الملك) فتنجلى البصيرة ويتجلى الكشف ويصير للنبى الحاكم خصوصية الدراية. لكن إرادة الله شاءت أن تجعل أمر تسيير الحُكم فِعلاً بشرياً خاضعا لمعايير الاجتهاد الإنسانى واستغلال الطاقات وتوريث الخبرات وتطويرها ثم حسن توظيفها.

جاء (الهدهد) بنبأ يقين، أو بمعنى أبسط رفع واقع للجوار الجغرافي، محدداً ملامح (حكم آخر)، قائم على كل أشكال الحضارة، وخال من روح العبادة لله، كان (الهدهد) هو الآلة الإعلامية المتاحة فى زمانه، وكان (النبأ) بمثابة التهديد لملك (سليمان النبي)، والاستهداف لاستقرار البنيان الإنسانى الذى شيدته رسالة الوحي. ولم يتعامل (الحاكم النبي) مع (النبأ) باعتباره تبريراً من (إعلامى هدهد) أو تبنياٍ للمؤامرة من (صاحب رأى هدهد)، أو تدخلا من غير المختص، بل تفاعل (الحاكم النبي) مع (النبأ) ببشرية صرفة وبتفعيل لمكونات إدارة الدولة التى تستهدف رسالتها دولة جوار ذات حضارة وبنيان. وبالتأكيد لنا فى سير السابقين عبرة، وإن كانت مملكة النبى سليمان قد غدت عالماً ودولاً وحضارات، واستحال (الهدهد) أجهزة ووزارات وهيئات، واتخذ (النبأ) أشكالاً وأدوات إعلامية عديدة، فإن الواقع المصرى يكاد يخلو من أية (رؤية حقيقية لتفعيل دور الهدهد) على كافة المستويات سواء الإدارية فى الدولة أو التوعوية فى صفوف المواطنين.

خلال قرابة عشرين عاماً من عمل كاتب هذه السطور فى الإعلام، أكثر من نصفها فى دروب تنظيم الإخوان حتى مَنْ الله عليه بالفرار من ضيق التنظيم إلى براح الدنيا، وخلال السنوات الخمس الأخيرة التى عاشتها مصر، أستطيع الجزم أن ماكينة الاستهداف لمصر تتجاوز إعلامياً حدود القدرة الإخوانية والتى تغدو مجرد واحد من تروس سلاح إعلامى أممى موجه صوب عقول هذا الوطن، ويومياً ذات العناوين التى تستهدف مصر -الوطن قبل النظام والمواطن قبل الحكم-، أرصدها تنتقل ما بين المجلات الأمريكية والمحطات الإخوانية، أو التقارير الانجليزية والمواقع التنظيمية، أو التحقيقات فى الإعلام الصهيونى وترجمتها عبر اللجان الإلكترونية الإخوانية.

إن هذا الواقع ببساطة إيجازه وجسام تحدياته وتداعياته، لا تصح معالجته بغير حكيم يداوى عللاً يضج بها الوعى الجمعى المصري، ويستثمرها كل صاحب رأس مال يتم تدويره إعلامياً، وكل صاحب جدارة فى إدارة حالة العبث الإعلامى بارتداء ثوب الهدهد الذى جاء من مصر بنبأ يقين، مفاده (العيشة طين، والناس جعانين، والمثقفين كافرين، والمفكرين مفرطين، ورجال الدين مقشفرين، وأهل السياسية متخانقين، وأهل الفن والكورة على الفتة عايمين والله يحب المحسنين)!. إن محاولة تفعيل دور (الهدهد المصرى) تسبقها بالضرورة بشرية استيعاب الحاكم لهذا الدور المتخصص، الذى لم يترفع عن قبول رأيه سليمان (الحاكم النبي)، تماماً كما كان المصطفى عليه الصلاة والسلام فى غزوة بدر حين نزل لنصح (الحباب بن المنذر).

إن الوعى المصرى على المحك، وهو ما يدق كل نواقيس الخطر، لأن تتبنى الدولة مشروعاً إعلامياً لصناعة (هدهد) يوعى بالأخطار المحدقة، ويفضح المؤامرات التى صارت فجة، ويجلى البصيرة دونما تسطيح، ويحارب السطحية والتشتيت والتفتيت بالتنوير والتركيز والأمل. بالتأكيد هناك إنجاز يتحقق على الأرض، ولكن الإنجاز يفتقر إلى بيان، والحقائق يعوزها البرهان، والعوائق ينقصها وعى متجَاوِز للنظارة والعيان. وهو ما يجعل على الرئاسة مسئولية (الهدهد) فى تصدير خطاب إعلامى كاشف للشعب، ويحتم على مؤسسات الإعلام -إن قررت الانحياز للوطن- أن تجلس على طاولة واحدة لتحدد أهدافها فى استرداد وعى مصر الذى كان واستعادة رسالة (الهدهد المصرى) فى إعلام يفرض قوة مصر التاريخية خطاباً إعلامياً وفنياً وثقافياً وتنويرياً، ولكن التطلع لصناعة (هدهد إعلامى مصرى وطنى) سيظل الأمل الذى طال شعبا، طال وجعه لكنه لم يفقد إيمانه بوطنه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف