من الأمور المهمة التي ينبغي علي الناس أن يكونوا علي علمٍ بها :
( الحقوق ).
والحق في اللغة هو الشئ الثابت دون ريب، وهو النصيب الواجبُ سواء كان للفرد أو الجماعة. ويعرّف الحق بأنه ما قام علي العدل والإنصاف ومبادئ الأخلاق.
والحق في الشريعة الإسلامية : لفظٌ يشير إلي الله عزّ وجلّ، وهو إسمٌ من أسمائه الحسني جلّ شأنه.
وبمفهومٍ عام : فإن حقوق الله مبنيةٌ علي المسامحة، وحقوق العباد مبنيةٌ علي المطالبة.
ولذلك ولما للحقوق من أهمية وعِظَم شأن، خاف رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو االذي غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أن يلقي الله سبحانه وتعالي وفي ذمته شئ لعبد من عبيد الله، فقام عليه صلاة الله وملائكته وسلام الناس أجمعين، وهو في مرض الموت خطيباً في الناس قائلاً كما جاء في الحديث عن الفضل بن عباس، قال : جاءني رسول الله صلي الله عليه وسلم فخرجت إليه فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه فقال : « خذ بيدي يا فضلُ « فأخذت بيده حتي إنتهي إلي المنبر فجلس عليه، ثم قال : « صِح في الناس « فصِحتُ فيهم فاجتمع الناس، فحمد الله وأثني عليه ثم قال : « يا أيها الناس، ألا إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليَستَقِد منه، ألا ومن كنت قد شتمت له عِرضاً فهذاعِرضي فليَستَقِد منه، ومن كنت قد أخذت منه مالاً فهذا مالي فليَستَقِد منه، ألا لا يقولن رجلٌ : إني أخشي الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولامن شاني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا طيبُ النفس، ألا وإني لا أري ذلك مغنياً عني حتي أقوم فيكم مِراراً «، ثم نزل فصلي الظهر، ثم عاد إلي المنبر فعاد إلي مقالته في الشحناء وغيرها، ثم قال : « يا ايها الناس من كان عنده شيء فليرده ولايقول : فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسرُ من فضوح الآخرة «، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال النبي : « أمَا إنّا لا نكذّب قائلاً ولا نستحلفه، فيم صارت عندي ؟ قال تذكر يوم مرّ بك مسكين فأمرتني أن أدفعها إليه، قال النبي : « ادفعها إليه يا فضل «، ثم قام رجل آخر فقال : عندي ثلاثة دراهم كنت غللتها في سبيل الله. قال : « ولم غللتها «، قال : كنت إليها محتاجاً، قال النبي : « خذها منه يا فضل «، ثم قال عليه الصلاة والسلام : « يا أيها الناس من خشي علي نفسه شيئاً فليقم أدعو له « فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله إني لكذاب، وإني لمنافق، وإني لنئوم، قال النبي : « اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً وأذهب عنه النوم إذا أراد « ثم قام إليه رجل آخر فقال : والله يارسول الله، إني لكذاب وإني لمنافق وما من شئ من الأشياء إلا وقد أتيته، فقال له عمر بن الخطاب : يا هذا، فضحت نفسك. قال النبي : « مَه يا ابن الخطاب، فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة.. «.
ويحكي فيما يتعلق بالحقوق وعظم شأنها : أن سعيد بن زيد، الصحابي الجليل وأحد المبشرين بالجنة، اتهمته سيدة يقال لها أروي بنت أويس، أنه أخذ شيئاً من أرضها، وشكته إلي مروان بن الحكم أمير المدينة، فقال سعيد رضي الله عنه : أنا آخذ شيئاً من أرضها بعدما سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول في ذلك ؟ فقال له مروان : وماذا سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ قال سمعته يقول : من اقتطع شبراً من أرضٍ طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين. فقال مروان : لا اسألك بعد هذا بينةً يكفيني قولك هذا، انصرف. ولكن الأمر شقّ علي سعيد فقال داعياً ربه تعالي : « اللهم إنك تعلم أنها كاذبة، فاللهم أطل عمرها واعم بصرها واجعل قبرها في دارها. ومرّت السنون، وعميت أروي، وكانت تمشي وتتحسس الجدران، وكان في دارها بئر فسقطت فيه، فأتوا كيما يستخرجوها فعجزوا فدفنوها في البئر التي في دارها.
وإني لأعجب قارئي العزيز لبعض الناس الذين يأكلون حقوق الناس، أو يدلون بها إلي فريقٍ من الحكام، ظناً منهم أنها « فهلوة « أو ذكاء أو شطارة، وكأنهم لم يقرأوا شيئاً عن خطورة هذه الحقوق وعظم عقوبتها، والتي خاف منها رسول البشر، رسول الحق، رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، فلم يمنعه مرضٌ ولا مغفرةٌ لما تقدم من ذنبه أو تأخر، فقام يسأل الناس أن يحللوه من أي حق يكون لهم عنده، وطلب من عمر بن الخطاب أن يسكت حين حاول أن يمنع رجلاً من إكمال إعترافاته عن أخطائه، ونبّه عليه الصلاة والسلام، أن فضيحة الدنيا تهون أمام الآخرة، لكل من أحب أن يأتي الله بقلبٍ سليم، يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون. وقد يعجّل الله العقوبة في الدنيا، ويستجيب دعوة المظلوم ولو بعد حين.
حقيقة إن الاعتداء علي حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، هو البوابة الأكبر والأوسع للمفسدين وللفساد. وإن حماية الحقوق تبدأ بالطبع من الناس أنفسهم حين يتوقفون عن الظلم وعن التجني علي حقوق الناس.