التحرير
أحمد عبد التواب
كاتب سعودى يطالب بغرامة على مصر لاحتلالها الجزيرتين!!
هل كان يمكن لأحد من أشدّ أصحاب الخيال جموحاً، سواء من المؤيدين أو المعارضين لقرار التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير إلى المملكة السعودية، أن يصل خيالُه إلى أن يخرج صوت واحد من السعودية يطالب بفرض غرامات على مصر مقابل استخدامها للجزيرتين طوال أكثر من 6 عقود؟ وأن تصل هذه الغرامات إلى عشرات المليارات من الدولارات؟ وأن يُتاح له أن ينشر رأيه هذا فى المملكة التى لا يحظى فيها الكُتّاب بأن ينشروا كلمة واحدة تخالف رأى الحكام؟ وإذا كان الكاتب يثرثر برأيه الخاص، فإين الموقف السعودى الرسمى من هذا الكلام؟

لقد نشرت بوابة الفجر الإلكترونية عرضاً لرأى الكاتب السعودى بسط فيه حجته، وفنّد تفاصيل الغرامة التى حسبها مما اعتبره عائدات مالية تحصّلت عليها مصر من جراء السيطرة على الجزيرتين، قال إن الحكومة المصرية مطالَبة بدفع مبلغ 10 مليارات دولار نصيب السعودية من عائدات الجزر ومضيق تيران من المعونات الأمريكية المقدمة لمصر منذ العام 1978، وجزء من عائدات الجمارك التى دخلت الخزينة المصرية منذ العام 1950، كما أن الحكومة المصرية مطالبة بمبلغ 7,5 مليار دولار كلفة إيجار الاستثمار طويل الأجل، ومبلغ 15 مليار قيمة استثمارات محتملة فى الجزر والمضيق سياحياً وتجارياً خلال أكثر من 6 عقود.

وأوصل الكاتب السعودى إجمالى المبلغ الذى يراه استحقاقات سعودية من مصر إلى ما قيمته 33,638 مليار دولار! ثم تحرّز خشية أن تستجد أمور فى المستقبل لم يضعها فى هذه الحسبة، فقال: مع عدم الإخلال بأى مطالبات أو حقوق أخرى لا حقة بين الطرفين أو من طرف ثالث..إلخ

وأختتم مقاله بمطالبته مجلس التنسيق السعودى المصرى، برئاسة ولى ولى العهد السعودى، ورئيس الوزراء المصرى، ورئيس ومجلس الأعمال السعودى المصرى، والسفير السعودى فى القاهرة، والسفير المصرى فى الرياض، أن يضمنوا هذا المبلغ المفصل لأنه من حق الشعب السعودى ولأنه لا يمكن التنازل عنه بأى حال من الأحوال.

وهكذا، وكما ترى، يبدو أننا نفضنا أيادينا بسرعة الضوء من موقف عام تبدو فيه مصر الرسمية وقد قدّمت هدية تاريخية هائلة وتنازلاً ضخماً إلى السعودية، حتى أن كثيرين ممن رأوا أن للسعودية حقاً تاريخياً، لا يزالون يتساءلون عما يجب أن يعود على مصر، مقابل أنها حفظت الجزيرتين للسعودية من خطر أن تستولى عليهما إسرائيل، وراح الكثيرون فى مصر يتحدثون عن أرواح الشهداء التى لا يمكن أن تُقّدَّر بأى أموال..إلخ

ولم يدر بخيال أحد أن يأتى صوت سعودى يردد ما ذكره هذا الكاتب السعودى، والذى جاء كلامه ليُذَكِّر من تغافل إلى أن السعودية الرسمية، التى تزعم استحقاقاتها فى الجزيرتين، والتى تقول إنها منحتهما طواعية لمصر لحمايتهما، لم تُبدِ طوال هذه العقود أى امتنان للدور المصرى فى حماية الجزيرتين، لم تمنح، على الأقل، أية مزايا للمغتربين المصريين بصفتهم أشقاء وآباء وأبناء للشهداء الذين يجودون بحياتهم دفاعاً عن ممتلكات يرى السعوديون أنها سعودية. بل على العكس، كانت المزايا فى السعودية يتحصل عليها القادمون إليها من أمريكا وأوروبا، فى الرواتب وفى التقدير، وأما المصريون هناك فهم يُعامَلون معاملة الوافدين من أفقر دول العالم التى ليس بينها وبين السعودية أى خصوصية، ولم تقدم شعوبها للسعودية أى خدمة وطنية لا بمستوى حماية جزرها ولا بما هو أقل. وعلى المصريين أن يخضعوا للتعنت فى تأشيرة الدخول, وللعقوبات الصارمة فى كسر شروط الإقامة، وليس لديهم ما يحميهم من انتهاك الكفيل السعودى لحقوقهم المادية..إلخ

وبغض النظر عما سيئول إليه أمر الجزيرتين، فإن النظام السعودى مطالب بشدة بتقديم تفسير لما ذكره الكاتب السعودى، مع ما ينبغى أن ينطوى عليه التفسير من اعتذار يقبله الشعب المصرى.

وأما الغريب فى الصورة البادية للرأى العام فى مصر وفى الخارج، أن المصريين منقسمون فى أمر الجزيرتين، بين مؤيد ومعارض، ولكن المنقول عن السعودية لا يحمل إلا رأيا واحداً متمسكاً بحقهم فى الجزيرتين. مما يضع مسئولية على صاحب القرار المصرى أن يرصد احتمالات أنه ما دام أن الأمر كذلك، فربما قد يظهر، فى المستقبل القريب أو البعيد، من داخل هذا الإجماع السعودى، تيار يصطف وراء رأى هذا الكاتب الذى يطالب مصر بدفع غرامات.

لذلك، فقد صار من الضرورى أن يُطرَح على أوسع مدى النصّ الكامل لاتفاقية التنازل عن الجزيرتين، على الرأى العام والمتخصصين فى مصر، للاطلاع على أشياء كثيرة منها التدابير التى وضعتها مصر لتحمى نفسها من توقع أن يُطرَح مثل هذا الكلام الذى لا يمكن التعامل معه باستهانة، أو بالزعم أن صاحبه يعبر عن نفسه فقط، أو أن يقال إنه مضطرب أو أى شيئ شبيه. لأن النزاعات الكبرى تنشأ أحياناً من أفكار تبدو ساذجة ولا تنال ما تستحقه من اهتمام، ولذلك ينبغى التوقف أمام هذا الكلام بجدية، ليس بسبب شخصية القائل ولا قوة حجته، وإنما بالوضع فى الحسبان من سوف يتحمس للكلام فى المستقبل، ومن سوف يكون وفى أى مركز وعلى أى سلطة ونفوذ.

كل يوم تتعزّر الحجج المطالِبة بوجوب أن يُعرَض الأمرُ فى استفتاء عام على الشعب المصرى.

ولعله من الأوفق أن يجرى تجميد الأوضاع على ما هى عليه لفترة زمنية تهدأ فيها النفوس، ليس فقط حرصاً على الجزيرتين، وهى نقطة تستحق وحدها أن يكون التعامل بحذر، ولكن أيضاً إبقاءً على العلاقات بين الشعبين فى مصر والسعودية، التى صارت تحت تهديد حقيقى من ردود الأفعال فى البلدين، والتى منها ما نشره هذا الكاتب السعودى والذى لم تدرك السعودي الرسمية حتى الآن وجوب أن تتصدى له.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف