هل يمكن للسياسة فى مصر أن تكون بلا يسار فكرا وحزبا وتصورا للحاضر والمستقبل؟ شغلنى هذا السؤال فى الفترة
الماضية حين طُلب منى المشاركة بمداخلة حول مستقبل حزب التجمع فى ندوة نظمها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية الأسبوع الماضى بعنوان «40 سنة تعددية حزبية .. حزب التجمع نموذجا»، والتى شارك فيها رموز الحزب ومهتمون بمستقبل الحياة الحزبية المصرية فى ظل بيئة سياسية تختلف تماما عن تلك التى نشأت فيها الأحزاب قبل أربعين عاما بقرار من الرئيس السادات آنذاك،أنهى الاتحاد الاشتراكى كتنظيم سياسى وحيد، والبدء بتعددية حزبية مقيدة استمرت حتى قيام ثورة 25 يناير التى أطاحت بالنظام السابق، ووفرت فرصة لقيام تعددية حزبية من منظور مختلف، ولكن فى الآن نفسه لم تصل الى مرحلة النضج الحزبي.
ولا يختلف اثنان فى مصر على أن الحياة الحزبية فى مجملها تتسم بالتشرذم ووجود العديد من الأحزاب بلا أساس مجتمعي، وغلبة الشخصنة على العمل الحزبي، وسطوة المال السياسى ورجال أعمال على أحزاب بكاملها.والمعروف فى العلوم السياسية، فان الحزب الحق هو الذى يمتلك رؤية شاملة لحركة المجتمع، وينجح فى تسويقها مجتمعيا من خلال عمل جماهيرى نشط وبذلك يصبح لديه مؤمنون بهذه الرؤية ويشكلون الأساس المجتمعى للحزب، وهو أخيرا ينافس على السلطة مدعوما بمؤيديه ورؤيته التى يسعى الى تطبيقها من خلال الفوز بمقاعد الأغلبية فى المجلس النيابي، وتشكيل حكومة تضع السياسات التنفيذية، ثم يُترك الحكم بعد ذلك للمواطنين فى الانتخابات اللاحقة. وهكذا تكتمل الحياة الحزبية فى دورة متكاملة يكون فيها أى حزب فى حالة صعود وهبوط وفقا لامكاناته الذاتية وقدرته على العمل بين الجماهير.
وفى الوقت الراهن فمن الصعوبة بمكان أن تنطبق هذه الدورة السياسية على أى حزب فى مصر، سواء الأحزاب التى تشكلت قبل 25 يناير أو بعدها، ومن ثم فان اقتصر الحديث على حزب التجمع ومستقبله، وهو أحد أحزاب نشأت فى ظل بيئة مقيدة وتراكمت لديه خبرات نضال سياسى واسعة المجال، وشارك فى كل الأحداث الوطنية تقريبا انطلاقا من رؤية يسارية لحركة الحياة، فمن غير الانصاف اعتباره حزبا فاشلا، والأصدق من وجهة نظرى النظر اليه باعتباره حزبا متعثرا بشدة. ودليلى على ذلك أن كثيرا من أعضاء الحزب قد وضعوا أيديهم منذ فترة طويلة على أسباب هذا التعثر، ووضعوا لها الحلول، ولكنهم لم يوفقوا فى تحويلها الى أسلوب عمل يخفف كمرحلة أولى من أسباب التعثر، ويسمح فى مرحلة تالية من الانطلاق والانتشار وجذب المزيد من الأعضاء الملتزمين والمؤيدين. ومما هو متفق عليه على أن التجمع بعد 25 يناير عانى ثلاث مشكلات كبرى وهى انشقاق تيارات بكاملها لم تكن راضية على وضعها داخل حزب التجمع، ورأت أنها أقدر على تكوين أحزاب مستقلة، ولكنها أيضا لم توفق فى تحقيق هدفها، مثل التحالف الشعبى الاشتراكى بقيادة عبد الغفار شكر، والذى تعرض لاحقا لانشقاق آخر قاده ما يعرف بتيار التجديد الاشتراكي.
والمشكلة الثانية تتعلق بندرة الموارد المالية للحزب مما يؤثر على تحركاته بين الناس، والثالثة تتلخص فى عدم جاذبية برنامج الحزب لعموم المواطنين رغم أنه يتحدث عن أهداف ومبادئ وقناعات لا خلاف على أغلبها كالعدالة الاجتماعية والاعتماد على الذات ومواجهة حركات الاسلام السياسى والارتقاء بوضع المرأة والقضاء على الفقر.
وفى مداخلتى فى الندوة المُشار اليها أشرت الى أن حزب التجمع يواجه أربعة مشاهد مستقبلية وهى اختصارا، أن يبقى وضع الحزب على حاله الراهن بمثابة ممثل لفصيل من فصائل اليسار تجمع بينه علاقات فكرية ونضالية وأواصر تاريخية وانسانية. وثانيا أن يسعى الى استعادة قوى اليسار التى فضلت الانشقاق من قبل ولم توفق فى أن تثبت وجودها كحزب مستقل قادر على العطاء وحشد الجماهير، وهو جهد يعنى أن يتحول حزب التجمع ليكون ممثلا لأكبر عدد ممكن من قوى اليسار، وهو ما يتطلب من الجميع بذل جهد تنظيرى وسياسى فائق لا يوجد من هو متحمس له الآن. وثالثا أن يستمر الحزب بوضعه الراهن دون تجديد أو تطوير فيمر الزمن ويختفى معه حزب التجمع، وهو ما أسميه مشهد الكابوس. أما المشهد الأكثر تفاؤلا وتحديا فيعتمد على انطلاق الحزب فى عدة مسارات، أولها مسار اعادة هيكلة الحزب تنظيميا بما يسهم عمليا فى تجديد دماء الحزب فى كل القواعد والمراتب التنظيمية الوسيطة والعليا معا. وثانيا أن يُعاد النظر فى صياغة برنامج الحزب ليصبح لديه القدرة على الانسياب بين المواطنين. وثالثا مراعاة التطورات العميقة الجارية فى المجتمع من ناحية تطور هياكل الإنتاج وعلاقتها بتطورات العولمة.
وفى اطار مشهد الانطلاق رأيت أن الأفضل على الحزب أن يعيد النظر فيما وصفه من قبل د. رفعت السعيد، فى العام 2009 وهو القيادى البارز فى الحزب، بسياسة الأسقف المنخفضة، والتى تعنى ربط الحزب بحركة الجماهير وسبقها فقط بخطوة واحدة، وهو ما أراه سياسة ذات مردود سلبى ومحدود القيمة، ولعل وضع الحزب الآن يؤكد ذلك. وما يهمنا أن يكون لدينا يسار قادر على العطاء والاستمرار، فتعدد الرؤى مطلوب فى كل مجالات الحياة، والبقية على قادة الحزب؛ فإما البدء بحركة انطلاق كبرى، وإما يبقى الحزب على وضعه الراهن وبما يشكله من خطر مستقبلى جسيم فى المدى القريب.