التحرير
علاء خالد
«باب سيوة»
من القصائد التى لا تغيب عن ذاكرتي ولا يغيب تأثيرها العميق عني أيضا قصيدة "باب سيوة" لـ"توم لامونت"، صاحب الجنسية الإنجليزية، والذى كان يعمل أستاذا فى قسم الدراسات الإنجليزية والأدب المقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

من القصائد التى لا يمكن أن تطبق عليها، مثل أغلب الأدب المكتوب عن الشرق، أى نظرية ما بعد استعمارية، أو استشراقية، أو فولكلورية فى قراءة آداب ومفردات الشعوب المُستعمَرة قديما. هذه القراءة الخاطئة التى تتم، سواء بالتعالي على هذه الآداب والمفردات، أو بالتواضع المبالغ فيه أمامهما، واللذين يفضيان إلى تزوير وتمييع هذه الثقافة بإضفاء نوع من الذاتية المستعمِرة عليها وعلى رموزها.



فى هذه القصيدة الطويلة هناك ندية واحترام يتبادلها الكاتب مع هذا "الباب" السيوي القديم، الذى اشتراه من سوق الإمام بالقاهرة؛ كأنه "إنسان آخر". وربما اختيار رمز "الباب" هو السبب فى هذا النوع من الاحترام والتواضع العادلين، عندما تقارن عمرك القصير بعمر هذا الباب. علاقة غير متكافئة ستبحث لها عن توازن أو تساوٍ داخل عمر القصيدة. ربما لأن "الباب" مفردة قديمة فى حياتنا، لا جنسية لها، وتحمل فى ذاكرتها تاريخا من المشاعر الإنسانية الخاصة: هو العتبة أو المكان الذى يفصل بين عالمين، الداخل والخارج. أيضا هو حد الحماية والانعتاق، حد المفاجأة والاعتياد، حد الترقب واللهفة والاشتياق، إلى أن تصل إلى معناه الرمزي كحد فاصل بين الحياة والموت، فلن نجد أوضح من الباب لنتخذه رمزًا للانتقال الحر والأنيق إلى العالم الآخر.

الباب الذى يتحدث عنه الشاعر فى هذه القصيدة، ليس بابا فى مدينة، ولكنه آت من الصحراء، المكان الأقدم للأبواب فى العالم، تلك الأبواب اللا مرئية المفتوحة مباشرة على العالم الآخر، والذى تتقارب فيه ثنائية الحياة والموت. الباب الذى ولد وسط هذه الظروف الخاصة، لا بد وأنه يتمتع بقدرة على التحمل، وبالرغبة فى الخلود، وبذاكرة قوية لرموز الأزمنة والعلاقات التى عبرت به فى فعلي الدخول والخروج، وبارتباط حميم بالرمال التى أثقلته وبخشب الشجر الذى صُنع منه. هو "باب جوهري" بكل المقاييس. كلها مفردات ومواد طبيعية أسهمت فى صناعة مادة وذاكرة هذا الباب. كأن "توم لامونت" باختياره هذا "الباب السيوى" يدافع، دون غلو، عن نمط من الحياة والأخلاق والصدق والتحمل يرمز لها الباب.



لقد صادف الشاعر هذا الباب فى سوق لبيع الأشياء القديمة فى القاهرة، منزوعا من تاريخه وجسده الصحراوي الذى أتى منه، فأراد أن يرد له اعتباره ويعيد له تاريخه وذاكرته اللذين فقدهما خلال هذه الرحلة من الصحراء لهذه السوق المدينية. كأنه انتُزع من وسط عائلته وجاءوا ليبيعوه خلسة، بعد أن فقد قوته التى كان يستمدها من الصحراء. هذه الرحلة الاضطرارية تمت لأنه أصبح للباب قيمة استهلاكية مضافة غير الوظيفة التى ولد من أجلها. كأنه يريد أن يقول إن جمال الباب وغرابته عن المدينة وندرته هو الذى دفع الآخرين "لاستعماره"، أو استغلاله، وانتزاعه من حياته الأصلية. وربما هو اشتراه ليحفظ له بيئة مناسبة، ربما لا تشبه بيئته الأصلية، ولكن على الأقل لن يتم استغلاله مرة أخرى، ستكون هناك نهاية لرحلته. فقام الشاعر بشرائه وتعليقه على الحائط فى القسم الذى يدرس به بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ليتحول إلى لوحة حية لها معنى فى الفن المعاصر الذى أدخل هذا النوع من الأشياء الدالة والمستعملة فى حياتنا المعاصرة تحت مظلته. ليكون هذا الجدار هو البيت/ المثوى الأخير له.



رحلة الباب مع "توم لامونت" طويلة ودلالالتها متعددة. أحيانا يتكلم بلسان الباب، وأحيانا بلسان الرجل السيوى، أو بلسان الضمير الجمعي للواحة "كان على الجيران أن يدقوا على الباب بقوة/ وكان علينا أن نسمح لهم بالدخول/ أو لا نسمح/ وإن حاولوا الدخول/ كان عليهم أن ينحنوا ليمروا/ حتى يتساووا بأطوال الكلاب والخراف والأطفال". فى هذه الأبيات يتحدث "توم لامونت" عن صفة أصيلة من صفات هذه الأبواب الصحراوية، وهى قصرها، كأنها صفة وراثية، تجبر الضيف على الانحناء، وبالتأكيد ليس من أجل الحط من قدره، ولكن "ليتساووا مع أطوال الكلاب والخراف والأطفال"، هذا المساواة التى تبحث عنها الصحراء وتحاول اكتشافها فى كل رموزها. الباب فى هذه الحالة هو أحد رموز الاتساق والتساوى بين الإنسان ومفردات الطبيعة. اهتمام الشاعر بمدن الأحلام التى صنعها الأدب جعله متضامنا مع هذا العالم المنسجم الذى يقف وراء هذا الباب الصحراوي. وربما يكون هذا الباب رمزا آتيا مدينة الأحلام المتناثرة كقطع الموزاييك على تاريخ الأدب الروائي والفلسفي، التى كان يحلم بها "توم لامونت".

وفى موضع آخر يظهر الباب بلمحة إنسانية، بتلك "العظام" التى بدأت فى الظهور بسبب تقشُّر سطحه "الآن لم يعد هناك أى إطار ليستريح الباب فى مكانه بإحكام/ لم يعد حتى مستطيلا كما كان/ شُحذت حوافه من جراء توالي فصول السنة، واختلاف درجات الرطوبة" ثم يضيف "كلها قشرت سطح الباب، لتكشف عن عظام بداخله/ عن بقايا لنقوش ملونة/ ولرسوم حلزونية بأشكال البحر". هناك عادة فى سيوة أن يرسموا تمائم على الأبواب، وأحيانا يصنعون أشكالا حيوانية وهندسية من بقايا صفيح علب المسلى القديمة ويعلقونها على أبوابهم. ما زال الباب، الذى رافق "توم لامونت" يحتفظ فى إحدى طبقاته التاريخية بصورة لهذه الحفائر البحرية، والمنثورة فى صحراء سيوة، والمتبقية من الحقب التى كانت فيها الصحراء مغمورة بمياه البحر.

فى هذه الصورة تحول الباب إلى نافذة زجاجية تحتفظ برموز الأحقاب الماضية، أو إلى باب حقيقي يمكن العبور منه لملاقاة القرون الفائتة.



يضيف، فى مكان آخر من هذه القصيدة الطويلة، أنه فى أحد الصباحات الباكرة، وقبل أن يستيقظ أبناؤه استمع لأصوات هادئة تأتى من الصالة حيث ترك "الباب" قبل أن ينقله لمكان عمله: "ووسط السكون التام لصباح باكر، وقبل أن يجاهد أبنائي ليستيقظوا من نومهم/ اندفعت فى هدوء إلى الصالة/ حيث تركت الباب/ معتقدا بأنى أسمع صوت نزف هادئ/ لألفاظ هاربة فى الهواء". الباب يتكلم فى وحدته، ينزف بهدوء لغة تتسلل فى الهواء، وتخترق التاريخ. ربما يكلم نفسه ويشكو لوحدته من رحلة استعباده، وفقده لمكانه. وربما أيضا يبعث برسائل مشفرة لمالكه الجديد، يناديه كي يستيقظ، ولا يتركه فى هذه الوحدة.

وفى مجاز هام وعميق من مجازات "الباب" المتعددة، عندما قام الشاعر بنقله لمكان عمله بقسم الدراسات الإنجليزية والأدب المقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، عندها اكتسب الباب رمزا شخصيا عميقا، وتحولت صورته -وهو محمول على أكتاف اثنين من العاملين الأقوياء- إلى صورة التابوت الذى كان يحمل جثمان أبيه لحظة دفنه. كأن انتقال الباب على حائط هذا المكان الغريب هو موت له، والحزن المتولد من هذا الموت المجازى حزن قريب من حزن موت الأب.

مشهد، بالنسبة إليّ، فى غاية العمق كمعنى وصورة أيضا: "عندما حاولت تثبيت الباب على حائطي/ كان على رجلين قويين/ أن يرفعاه إلى أعلى/ عندها تذكرت لحظة دفن أبي/ كان جسده فارغا وخشنا/ لا صاحب له/ غمد آخر، فارغ ومتيبس/ وفى النهاية أُنزل إلى الأسفل/ كان على حامليه أن يجاهدا فى رفعه/ لثقل جسده الذى لا مثيل له فى أي عالم/ هما فقط كانا يعلمان بذلك/ وأنا الوحيد فى الجنازة الذى شعر بجهدهما".

هو الوحيد فى "جنازة الباب"، حيث مرقده الأخير على حائط فى قسم الدراسات الإنجليزية والأدب المقارن بالجامعة الأمريكية؛ الذى شعر بثقل المهمة، أما الباقون فلم يتعاطفوا مع الباب الذى كان بمثابة أب ميت فى هذه اللحظة. كان من الصعب أن يهرِّب الشاعر الباب مرة أخرى ويعيده إلى الصحراء التى أتى منها، كما يحدث مع الحيوانات الهاربة، لأنه أصبح هناك ما يسمى "المتحف"، الذى يمكن أن يحتفظ بكل الأشياء الميتة من حيوانات ورموز وأفكار.



عثرت على ديوان "باب سيوة" صدفة عام 1998، بعد وفاة الكاتب، وسط الكتب المعروضة فى جاليرى "مشربية"، وهو من منشورات "أم الدنيا"، ويحتوى على قصائد كتبت ما بين عامى 93- 97. كان شكل الديوان لافتا والرسومات المصاحبة له للفنانة "آنَّا بوغيجان"، وقد قامت الفنانة سلوى رشاد بترجمة قصيدة "باب سيوة"، والتى سمى الديوان على اسمها، عن الإنجليزية، ونُشرت فى العدد الأول فى مجلة "أمكنة" سبتمبر 1999.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف