البديل
جمال الجمل
السيسي والبديل .. (جر شكل)
(1)
كم مرةً قلتَ: غداً، وعشت ذلك الغد كأمس؟
وكم مرةً قلتَ: أمس، لكن ذلك الأمس ظل أمساً، مهما حاول البعض أن يتمسكوا به ويجعلونه حاضراً أبدياً، أو نواة لغدٍ وهمي؟
تلك هي المشكلة العقلية التي تربك حال العرب منذ قرون، وأورثتهم حنيناً هائلا للجمود، والركون، والتمسك بالقديم إلى حد البكاء على الأطلال، وعندما يتعرضون لصدمة مقارنة أنفسهم بالآخرين، ينقسمون بين فريقين، الأول يتشدد في العناد لما هو عليه دون سواه، والثاني ينبهر ويمضي منسحقاً وراء الآخر دونما تفكير.

(2)
قد لا يعجبك هذا المدخل الفلسفي الهادئ، وقد لايكون الأكثر جذباً وملاءمة لمقال سياسي عن الأوضاع الملتهبة التي نعيشها، لكنه بالنسبة لي أساس مشاكلنا، فنحن لا نفكر عادة في المنهج، بل في المشاكل الملحة والحلول المؤقتة لها، لا نهتم بالسياق ولا بالمفهوم، بل بالجزئيات والوقائع، ولا يعنينا التخطيط، مادامت كل الأمور “ماشية وخلاص”، أما الحديث عن الغد، فهو حديث غيبي وميتافيزيقي.. بكره ربك يعدلها، تبات نار تصبح رماد، بكره يحلها حلَّال، لكن من هو “الحلال”.. وماذا نريد من بكره؟
هذا ما لا نعرفه، لذلك لا يأتي لنا بكره أبداً، فأيامنا كلها تصبح مجرد أمس منفلت بالضرورة من لحظة غائمة عشناها، نسميها مجازا حياتنا!.

(3)
أكتب هذه الخواطر التأملية كتمهيد للحديث عن “البديل” لما نحن فيه من مشاكل وأزمات، وأيضا للحديث عن بديل النظام، وهذه القضية ليست جديدة، بل (كما قلت سابقا) قضية أزلية لم نعرف غيرها، لكن هناك من يرفضون هذه الفكرة الآن، ويعتبرون أن الحديث عن بديل للرئيس السيسي أو لنظامه، جريمة تهدد الأمن القومي، مع أن السيسي نفسه لم يكن إلا “بديل” لوضع منقسم، وغد لحاضر مأزوم، لكن الغد سرعان ما التحق بالأمس، ولم يصمد طويلاً كحاضر يستحسن الناس الحياة فيه.
(4)
يبدو أن هذه “اللفة الطويلة” يمكن تلخيصها (بطريقته التي تأنف من التنظير) في مقولة مكثفة: السيسي فشل كبديل، وصار بحاجة إلى “بديل”، وكما أوضحت في مقالات سابقة، فإن هذا البديل ليس بالضرورة شخصاً، لكنه “فكرة”، و”أسلوب إدارة”، و”مستوى معيشة”، وتصور واضح للذات في علاقتها مع العالم، وبدون هذا التصور، لن نستطيع أن نقيم علاقات سليمة مع أي طرف في الإقليم أو في العالم، ولن نجد مؤشراً لقياس فائدة وضرر الاتفاقات والمعاهدات الدولية، ولن ندرك حقيقة الاستقلال والحرية والعصرية والتحضر، لهذا لا أستحسن الاستمرار في إعادة انتاج نفس الأخطاء التي نقع فيها منذ قرون، فنظل ندور في الفراغ المحيط بنا، ونوسع مساحات الفراغ الذي بداخلنا أيضا، لابد أن نفكر في الغد الذي نريد، ونجعل منه حاضراً مقيماً أرضه ترتكز على ثوابت التاريخ والجغرافيا وأعمدة الأمس القادرة على رفع البناء، وسماءه أفق ممتد مضاء بشمس الأمل والتقدم التي تمنح الحاضر المقيم رؤية افضل للحركة وشفافية أنسب للعلاقات وللتعلم.

(5)
من هذا المدخل الهادئ، يمكننا أن نناقش فكرة “البديل” باعتبارها قضية موضوعية، وليست قضية شخص، خاصة وأن لدينا ما يشبه الإجماع (بما فينا الرئيس الحالي والسابق والأسبق وكل الأسلاف) أن أحوالنا سيئة، وليست على ما يرام، لكن بعضنا يستسيغ هذا السوء، ويبرره بطريقة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وبعضنا يرفضه لفظاً ويمرره بحكم الضرورة، ومناشدات الصبر على الحال حتى يستقيم العوج، وبعضنا يرفض بحدة، من دون أن يفكر في اليوم التالي، يرفض لأنه يرى أن الحاضر سئ، لكنه لا يخبرنا عن الغد: هل هو اقل سوءً، أم أكثر اعوجاجاً؟

(6)
يبقى الفريق الأخير، وهو الأقل عددا وقدرة، فهو لا يمتلك المال ولا السلاح، ولا الحشد الجماهيري الغفير، لكنه يمتلك الرؤية، فمتى تحدث المصالحة بين كل هذه القوى التي لا ينفتح باب الغد إلا بانفتاحها على بعضها البعض؟، متى نرفض الخطأ، ونحن نعرف الصحيح، ونسعى إليه؟
هذا هو السؤال البديهي الذي أطمح أن نفكر في إجابة عنه، فقد سئمت الدوران في الفراغ، وسئمت التغيير بدافع الملل، وليس من منطلق الوعي، وسئمت تسمية الأشياء بغير مسمياتها، فلدينا الآن رئيس فاشل كان بديلا لرئيس فاشل، كان بديلاً لمجلس فاسل، كان بديلاً لرئيس فاشل وفاسد، لازال صبيان عصابته يسيطرون على الوضع، وأي تغيير لا يقضي على نفوذ هذه العصابة ومنافسيهم في الاحتكار والتسلط والجريمة، لن يفضي بنا إلى غد مأمول.

(7)
وبناءً على ما تقدم:
فكروا في “البديل” أو استمروا في المهزلة.
……………………………………………………..
#تيران_لا
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف