الوطن
سهير جودة
«محلاها عيشة النشطاء»
إذا أرسلت البصر فيما حولك خلال السنوات الأخيرة سيرتد إليك البصر حسيراً مليئاً بصور وقيم تهبط بنا إلى القاع ولا تصل أبداً إلى خطوة، فى طريق القمة الحالة المصرية لم تعد حالة عابرة ولكن الوطن أصبح يملك مع كامل الأسف مخزوناً مبثوثاً فى جوفه من اللاوعى واللانظام واللاانضباط أفقدنا القيم والأخلاق والتنوير والاتجاهات نعيش حالة من العبث والارتباك وفقدان الثقة وسط مشتبهات وأشباه وتعبيرات وأفكار نحن فى حالة ضياع وسلوكيات ملتوية وأى أصوات حقيقية فى هذه الحالة لن تصل.. تتحدث فى الفراغ ويرتد إليها صدى صوتها، فهل أصبح الوطن يرى الدنيا بعدسات ينكسر فيها مسار الضوء فتظهر الأشياء منحرفة عن حقائقها وفى سنوات الاهتزاز أصبحت لدينا وظيفة أو مسمى «ناشط سياسى» كما لو كان هذا المصطلح يعنى أنك إما ناشط سياسى أو خامل سياسى، واختفت من الحياة كلمة معارضة بمعناها الصحيح وليست معارضة ابتذال أو صوت عالٍ وتجاوز أو بحث عن مكاسب ومنافع خاصة، فمنذ ثلاث سنوات كتبت فى هذه المساحة «ومن شر ناشط إذا نشط»، وأن الوطن لا بد أن يكون دعاؤه اليومى «اللهم اكفنى شر نشطائى أما أعدائى فأنا كفيل بهم».

ظاهرة النشطاء جعلت البعض يتطلع إليها باعتباره سبوبة ووجاهة، ومقابلة الرئيس الفرنسى فى زيارته الأخيرة للقاهرة لبعض النشطاء تمنحهم مكاسب خاصة وخسائر للوطن فهم دائماً عند حسن ظن الإرهاب والأعداء، فهل هذه المصطلح أصبح حلماً وطموحاً وهدفاً بعد انتقال شباب ونساء من طبقة المعدمين إلى طبقة الأثرياء لأنهم أصبحوا نشطاء؟ وكلما كنت أكثر ضجيجاً وتجاوزاً كان أداؤك الوظيفى كناشط سياسى على أكمل وجه وكان أداؤك الإنسانى والوطنى فى أسفل سافلين و«محلاها عيشة النشطاء»، وفى سياق الضياع وجدنا مصطلح الألتراس وكأنه إضافة فى الهيئة الاجتماعية بينما الألتراس يعنى التطرف والتعقب للشىء وأصبح الألتراس صفة ومهنة ولا نعرف هل هو «ألتراس وعاطل أم ألتراس وطالب»، وماذا يفعل هذا الألتراس فى الحياة هل يقضى وقته فى التعصب وفى المظاهرات ويتخذ من العنف أسلوباً ومن التطرف منهجاً؟

إنها صفات عجيبة نستخدمها بحكم وجودها فقط هبطت علينا دون وعى بمدلولها ولهذا تشابهت الأشياء علينا ولم نعد نعرف الطيب من الخبيث والخير من الشر وربما كانت بداية التشوه والتشتت من كلمة رجل أعمال فهو مصطلح أدى إلى تشويه المجتمع وتراكم حالة اللافهم فنحن لا نقول رجل صناعة أو تاجراً أو مستورداً وإنما أخذنا تعبير «بيزنس مان» الذى هو لغته الأصلية رجل اقتصادى، وهو تعبير له معنى واضح، أما رجل أعمال فقد أدى التباس الاسم إلى انعكاس على الأداء فأصبحت هذه الأعمال فى الأغلب غير شريفة أو أى أعمال والسلام ووصل الابتذال إلى حد ابتذال الصفات الرفيعة، فكلمة مفكر أصبحت تطلق على أى شخص بصرف النظر عن قيمته وعن عطائه، وكلمة المستشار أصبحت تطلق على كل من يعمل فى السلك القضائى ولكل من يعمل فى المحاماة ولكل من يعمل لحساب جهة ما ويقدم مشورة بصرف النظر عن قيمة ما يقدمه وعن قيمته الشخصية فأصبحنا نجد المستشار الإعلامى والسياسى، أما الخبراء فمصر أصبحت جميعها خبراء، وإذا تكلم شخص ما فى موضوع لمدة ثلاثة أشهر أخذ صفة خبير وحتى اللقب الأكاديمى العلمى الدكتور أصبح يستخدم فى النصب والاحتيال فهناك شخصيات تضع هذا اللقب وهى ليس لها علاقة بالطب أو العمل فى الجامعات ولكنها تشترى شهادات وهمية تعطيه هذا الزيف، بل هناك من ينصب نفسه طبيباً بشرياً ويتصدر وسائل الإعلام والطب منه براء وهناك لقب الكاتب والكاتب الكبير وبعض هؤلاء لا يصلح أن يكون قارئاً عندما تبتذل القيم لا يوجد فرق بين الغث والسمين الحقيقى والمزيف الجيد جداً والمحترم والضعيف والشجاع يستوى الجميع وتضيع الفوارق المبنية على العلم والموهبة والعطاء والاجتهاد وتؤدى هذه الحالة إلى الضياع الكامل فنجد تافهاً يحصل على أعلى المناصب، والفهلوى يحقق الثروة الأكبر، والأفاق تصبح له وجاهة فى قلب الهيئة الاجتماعية ويشار إليه بالبنان والحصول على لقب فنان متاح للجميع فأى هزل من الكلام يصبح أغنية شهيرة، وأى صوت يستحى بجانبه صوت الحمار يصبح نجماً، وأى مشاهد مبتذلة تصنع فيلماً، وهذه حالة تسقط كل القيم الخاصة بالعلم والضمير والاجتهاد والموهبة والأخلاق والرؤية وتهدر عن الإنسان إنسانيته واجتهاده بقدر ما سقط من طموحه، هل ليل الوطن أصبح كما قال الشاعر:

ليل كموج البحر أرخى سدوله.... على بأنواع الهموم ليبتلى

أى طال عليه ظلام يعقبه ظلام ولا نهاية له بفجر يبدده.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف