متشرد يهيم على وجهه فى شوارع المدينة. أراه عادة يجلس ساهمًا يدخن فى الحديقة الذابلة التى تتوسط الطريق. كان يشعل أعقاب السجائر التى يجمعها فى كيس بلاستيكى صغير متسخ يخفيه بين ثنايا ملابسه التى تحولت إلى عجينة صلبة من التراب والقاذورات والعرق وعوادم السيارات، يتماهى لونها مع بشرته التى أحرقتها الشمس.
كنت أجلس فى المقهى عندما جاءت عربة نصف نقل حمراء تحمل شيئًا يشبه منضدة متوسطة الحجم تختفى تحت ملاءة قديمة بيضاء، ولا تظهر منها غير أطراف أرجلها الرشيقة السوداء.
عندما فك السائق والتباع الحبل الذى يربط ذلك الشىء بالعربة اتضح أنه "بيانو" أسود أبنوسى كالح بعض الشىء لكنه ما زال يمتلك القدرة على اللمعان تحت شمس الظهيرة. حمل الرجلان "البيانو" دون اهتمام كأى قطعة أثاث أخرى تعودا على نقلها من مكان لآخر.
بعد لحظات من التحركات المحسوبة أعطى التباع الشاب ظهره إلى صندوق العربة وهو يحمل نصف "البيانو" المتدلى منها على كتفيه. بعدها قفز السائق الكهل برشاقة ليهبط من صندوقها إلى الطريق ليرفع نصف البيانو الآخر مع التباع، فتمكنا بعد لحظات من وضعه بسلام على الرصيف.
أشعل التباع سيجارة ودخل المقهى متجهًا إلى دورة المياه. كان واضحًا أنه يعرف مكانها جيدًا. ألقى التحية على صاحب المقهى الجالس خلف مكتبه الصغير وتبادلا تحية بذيئة ضاحكة. نظر السائق إلى مدخل البناية القريبة وذهب ليفتش عن بوابها وهو يضع هاتفه المحمول على أذنه.
فى لحظة خاطفة انتفض المتشرد منتصبًا كوترٍ مشدودٍ فى الحديقة التى تتوسط الطريق. كان ينظر إلى البيانو بعينين متسعتين براقتين. عبر مسرعًا دون أن يلتفت إلى السيارات التى ارتفع صرير عجلاتها على الأسفلت وانهالت الشتائم من أفواه سائقيها لاعنة آباءه وأجداده. اتسعت ابتسامة المتشرد عندما وقف مواجهًا "البيانو". رفع غطاء مفاتيحه بهدوء وثقة. جذب مقعده الدائرى الصغير الذى كان يرقد مقلوبًا على أرضية صندوق العربة.
جلس وتقافزت أصابعه لتعزف لحنًا أصاب مرتادى المقهى بالوجوم. اختفت الضحكات والبسمات الساخرة لتحل مكانها أفواه مفتوحة وشفاه سفلية متدلية تعكس دهشة أصحابها. بعد أن انتهى من عزف الجملة الافتتاحية لسيمفونية "ضوء القمر" لبيتهوفن انتقل بسلاسة وبمهارة مذهلة إلى السيمفونية الرابعة عشرة لموتسارت. زالت الدهشة وتهلل الجميع. ربما لمعرفتهم بلحنها الجميل الذى استعارته فيروز فى أغنيتها الشهيرة "أنا وياك". أعرف هاتين التحفتين وأحبهما كثيرًا. "مون لايت وأنا وياك". التفت السائق إلى مصدر الصوت فاقترب مسرعًا.
توقعت أنه سيهش المتشرد بقسوة وربما يعتدى عليه بالضرب ليبعده عن "البيانو". لكننى وجدته يتسمر مبتسمًا بعد أن اقترب وأدرك أن النغمات الصادرة ليست ضربات عشوائية عابثة تخرج من أصابع مجنون اجتاحته لحظة طفولة عابرة، بقدر ما تعبر عن مشاعر تصدر من قلب موسيقى محترف يتقن العزف. خرج التباع من المقهى وقفز مسرعًا وهو يصيح: "إنت ازاى سايبه يعمل كده يا عم عشرى"؟ "ما تحوش ابن الصرمة ده علشان نودى الحاجة سليمة لأصحابها". منع السائق تباعه بإشارة حازمة.
"سيبه يتكيف شوية ويطرى على قلوبنا"! ثم أشار إلى الجالسين على المقهى. "إنت مش شايف الناس مبسوطة منه ازاى"؟ "عليا الطلاق تلاقى الناس أصحاب البتاع ده حيركنوه زينة ف بيتهم ومش حيعرفوا يضربوا عليه ربع لحن من اللى بيعملهم"! انتبه المتشرد إلى الحوار الذى يدور من حوله فتوقف عن العزف واجمًا كمن خرج من "الموود" السماوية التى كانت تعتريه. قفز عائدًا إلى الحديقة التى تتوسط الطريق.
أشعل عقب سيجارة انتقاها بعناية من الكيس، وأظن أنى رأيته يثنى قامته وينحنى كمن يستقبل تصفيقًا حادًّا من جمهور خفىٍّ.