في هذا الزمن البائس ــ زمن الدواعش ــ هل ثمة مكان أضمن وأكثر أماناً من صدر الأم.. في غيابها أشعر باليُتم حتي وأنا في أرذل العمر.. أبحث عن هذا الملاذ الدافئ وأتخيله مع برودة الأيام. لكن هيهات. حتي الخيال يعجز عن توفيره.
لا شيء بمقدوره أن يبدد جهامة الأيام سوي سيرتها. صوتها. صورتها. ثباتها. إيمانها. محبتها. قدرتها علي زرع الأمل.
ورحلة الأيام مهما طالت لا تأتي بمن يعوض الأم أو يحل مكانها.. ومن فينا لا يعود إلي طفولته في لحظات ضعيفاً باكياً حين تمر ذكراها علي الخاطر؟؟
الخيال السينمائي أفرز عشرات الصور لأمهات مصريات فهل وجدت في أي منهن صورة أمُك؟؟ أم أن لكل منا "أمُه" في بورتريه فريد لا يشبه أحداً؟!
في الأيام الأخيرة وبمناسبة احتفالات عيد الأم. لاحظت وأنا أتابع البرامج الاذاعية أن المستمعين الذين يتفاعلون مع هذه البرامج علي الهواء. يختارون كريمة مختار. وفردوس محمد. وأمينة رزق وبصورة أقل عبلة كامل في ذهنهم ربما مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" هؤلاء الممثلات الفاضلات جسدن الصورة الكلاسيكية للأم.. الأم التي تحافظ علي التقاليد وتتمسك بالقيم "الأخلاقية" الأصيلة وتحمي الأسرة من زلازل الزمن.
لم أسمع اشارة لصورة أم "مودرن" من تلك التي ظهرت في عدد من الأفلام حديثة الانتاج ولم يذكر أي من الذين اتصلوا بالبرنامج اسم ممثلة شابة لعبت هذه الشخصية ذات القداسة وتركت بصمة في نفوس من شاهدوها أو سمعوها.
الوجدان والضمير الجمعي تفاعل مع "ماما نونه" في آخر طبعة قدمتها كريمة مختار في مسلسل "يتربي في عزو".. وأنا أضيف هنا صورة أخري مؤثرة قدمتها كريمة مختار أيضاً في فيلم "الفرح" في زمن التشوهات والانحرافات التي أصابت المجتمع المصري.
بعض نماذج الأمُهات الصغيرات اللاتي ظهرن في الأعمال السينمائية والدرامية التليفزيونية لفظتهن الذاكرة. رفضهن الضمير الجمعي في الحال فلم ولن يصحبه جزء من الميراث الثقافي الاجتماعي النفسي لصورة الأم المصرية.
أتذكر ومن دون ذكر أسماء صورة أم في فيلم من أفلام الألفية الثالثة باعت ابنتها لطالب مُتعة ثري هكذا "؟" بقلب بارد وضمير مرتاح ومنهن من كانت "تأكل بثدييها" أي امرأة غير شريفة وبعضهن تاجرن في الممنوع. ومنهن قاتلات وصاحبات سوابق.
قداسة الأم تسقط في زمن الانحطاط الثقافي وسيادة الفساد السياسي والاجتماعي وفي زمن الانفتاح العشوائي وطغيان المادة علي أي قيمة إنسانية وأخلاقية محترمة.
نعيمة الصغير "الأم" في "القاهرة 30" هزمها الفقر في غياب قيمة الشرف وباعت "إحسان ابنتها ولم يستطع "علي طه" اليساري المؤمن بقيمة التعليم. إنتشالها من هوة الضياع النفسي والأخلاقي.
أمينة رزق في "بداية ونهاية" قاومت وصارعت العوز بأقصي قوتها وصرامتها. ولم تنجح في انقاذ "نفيسة" ولم تحل دون انحراف الابن الأكبر ولا انانية الابن الآخر الذي تخرج في احدي الكليات العسكرية.
الأم في الدرامات الواقعية تستحضر ضمنياً ملامح الزمن الذي عاشت فيه. وانساق القيم التي تسيدت المرحلة التي تدور فيها الأحداث وفي مراحل أكثر حداثة ظهرت فاتن حمامة في "امبراطورية ميم" حيث تسللت السياسة إلي حياة الأسرة المتوسطة وبات مصطلح "الديمقراطية" متداولاً بين أفرادها ورغم تباين آراء الأبناء ونوازع التمرد عند كل واحد فيهم ظلت للأم قداستها ودورها الفاعل الذي تجاوز جدران البيت إلي مكاتب الوزارات.
"الأم" هنا فاعلة وليست مفعولاً به مثل "الست أمينة" في الثلاثية وليست مُنحرفة مثل "الصورة" المشوهة في "الطريق المسدود".. وفي الزمن الردئ يغتال الأبناء الأم "الطوفان".
وفي ظروف مجتمع مطحون تظهر أمثال "حَزينة" في "الطوق والأسورة". امرأة من الصعيد مخنوقة بظروفها البائسة ومحيطها الاجتماعي والبيئي المحكوم بقوي قابضة علي الروح وفي ظل إحكام سيطرة الثلاثي المروع: الفقر والجهل والمرض.
إن "الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق" والاعداد المقصود يبدأ بتوفير ظروف تُغنيها عن السؤال وتبعد عنها أشباح العوز أي أن تحفظ لها كرامتها. وأن تهيئ ظروف تعليم يُحصنها بالوعي السليم والفهم الصحيح للدين فضلاً عن توفير بيئة نظيفة بالمعني المادي والمعنوي. وإلي جانب هذا كله لتسليط الضوء علي نماذج ورموز حية متحررة من النساء وتمثل القدوة النموذجية.
في الدراما بأنواعها ومهما شطح الخيال في معالجة موضوعاتها توجد إشارات دالة ضمنية علي ظروف الواقع الثقافي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي إلخ ذلك لأن فنون الأداء بمثابة مشاريع جماعية يشارك فيها عشرات وتستهلك العشرات من رُزم الأوراق النقدية.. وتشكل في النهاية "مدرسة" مجانية لا تذهب إليها وإنما تأتيك وتفعل مفعولها وتُصبح بالضرورة أحد مصادر "الإعداد" التي تمناها الشاعر: "إذا أعددتها".