جمال عبد الجواد
السلاح والمال والتنظيم والأفكار
الدول تقوم على أربعة: السلاح والمال والتنظيم والأفكار. العناصر الأربعة مرتبة حسب الأهمية، فبدون جيش وقوة أمن مسلحة لا يمكن للدولة أن تقوم، لكن الجيوش تحتاج مالاً للإنفاق على الرجال وسلاحهم، ولكى يظل الجيش قائماً والأمن محفوظاً والدولة قائمة بوظائفها فإن هذا يحتاج تنظيماً إدارياً وسياسياً يمارس السلطة ويجمع المال وينفقه ويقوم بوظائف الدولة المتعددة. ويظل كل هذا مجرد ماكينة تدور وتواصل الدوران كما لو كان الهدف هو الحفاظ على الماكينة ذاتها والإبقاء عليها بلا عطب أو عطل إلا أن يكون للدولة هدف أكبر وأكثر سمواً يعين الاتجاه ويضبط البوصلة، وهنا يأتى دور الأفكار. الفكرة هى القيمة العليا، ومنها يشتق الهدف الذى تسعى الدولة لتحقيقه، وفى هذا تتفاوت الدول. القيم العليا كثيرة ومتنافسة، والأهداف الممكنة متعددة، ففيما يختار بعض الدول الحرية يختار البعض الآخر العدالة، وفيما يركز البعض على الفرد، حريته ورفاهيته، يركز البعض الآخر على الجماعة، عزتها وقوتها، وبينما يركز البعض على تحسين حياة الجماعة والفرد، يختار البعض الآخر التركيز على الآخرة ويوم الحساب.
الحديث يدور عن الدولة فيما مضمون الحديث ينصرف إلى الدولة والمجتمع معاً؛ فجهاز الحكم لا يقف معلقاً فى الهواء بلا شعب ينتج الثروة اللازمة لتمويل الدولة، ويمد تنظيماتها بقوة البشر اللازمة لتشغيلها؛ وبدون فكرة ومبدأ وقيمة عليا يشترك فيها الناس مع حكامهم تنتفى أسباب الطاعة الواجبة، ويتحول الحكم إلى إعمال للقوة المجردة من أى أساس أخلاقى.
وفى منعطف نعيد فيه بناء الدولة، ونؤسس فيه لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع فعلينا أن نفكر بعمق فيما هو متاح لنا من عناصر الدولة الناجحة، ونتدبر لاستكمال ما نفتقده منها. لدى مصر ما يكفى من السلاح وقوته، وثبت فى لحظة الأزمة أنه لولا الجيش وقوة السلاح لكان لهذا البلد مصير آخر. لكن فيما وراء الجيش وقوته تبدو أوضاعنا بائسة وإن كانت غير ميئوس منها. نقص المال وأزمة الاقتصاد يشعر بهما كل مصرى، ولم يعد مؤكداً سوى أن كل ما جربته مصر من سياسات اقتصادية منذ بداية القرن العشرين لم يكن كافياً لفك ضائقة المصريين الذين ما زال القسم الأكبر منهم أسيراً للفقر أو يخشى الوقوع فى براثنه. وعندما يكون لدينا كل هذه التجارب وخبرة المحاولات الفاشلة، فالأمر لا يدعو سوى إلى تجنب استسهال الحلول، أو إعادة إحياء سياسات سبق اختبارها، ولا أملك فى هذا المجال سوى التواضع، أدعو إليه كل من يتحدث فى الاقتصاد، فالثقة التى يتحدث بها البعض من هؤلاء لا تبدو مبررة فى ضوء ما جربناه فى الماضى القريب والبعيد. التنظيم فى مصر فى أزمة كبرى ومظاهرها متعددة. أزمة التنظيم فى مصر نجدها عند الدولة كما نجدها عند المجتمع. الجهاز الإدارى للدولة عالة وعلة ثقيلة فلا هو قدم لنا الخدمات الموكل بتقديمها، ولا نفذ السياسات والمشروعات التنموية التى تطلقها القيادة السياسية، ولا هو أعفانا من حمله الثقيل الذى يلتهم أكثر من ثلث الموارد الحقيقية للموازنة العامة للدولة. والمفارقة أنه بينما نشكو جميعاً من انخفاض كفاءة جهاز الدولة الإدارى ومن عبء الاحتفاظ بهذا الجهاز الإدارى المبالغ فى حجمه، فإن أحداً لا يبدو مستعداً لدفع فاتورة تكلفة إصلاحه، ولنا فى رفض قانون الخدمة المدنية من جانب مجلس النواب دليل واضح.
تنظيمات الانتظام والتمثيل الشعبى أسوأ حالاً بكثير من جهاز الدولة الإدارى. فأحزابنا السياسية تكاد لا تحمل شبهاً بالأحزاب السياسية المعروفة فى العالم سوى الاسم فقط. ولدينا مهارة نحسد عليها فى تدمير الأحزاب وإضعافها. وبينما تتحمل الدولة جزءاً من المسئولية عن هذا، فإن نخبنا السياسية المغرقة فى الأنانية وحب الذات والغرور تسهل لقوى الاستبداد السلطوى مهمتها بسذاجة أو بخبث شديد، لا فرق.
حال النقابات فى مصر ليس أفضل حالاً بكثير من الأحزاب، فإذا كانت بعض النقابات المهنية قد عافاها الله مما أصاب الأحزاب، فإن نقابات العمال تكاد لا تكون موجودة، فلا التنظيم النقابى الرسمى -أو الحكومى- يمثل أحداً، ولا حركة النقابات المستقلة تبدو قادرة على الذهاب فيما وراء الضرائب العقارية وهيئة النقل العام وقطاعات قليلة أخرى. وفيما تواصل السلطات وأصحاب الأعمال التخوف من النقابات العمالية والشك فيها، يواصل أصحاب المصلحة من العمال الانصراف عن النقابات والعمل الجماعى المنظم، اللهم إلا انفجارات الغضب من جانب عمال شركة سبق خصخصتها، أو من جانب عاملين -ولا أقول «عمال»- فى شركة قطاع عام خاسرة تأخر صرف نصيبهم من أرباح لم يحققوها. وفى ظل حالة التصحر التنظيمى هذه لا يبدو مجتمعنا قادراً على الخوض فى مفاوضات حقيقية لصياغة سياسات الأجور وعلاقات العمل لإحداث التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين حقوق من يعملون وحقوق من يبحثون عن فرصة عمل، وبين الرفاه الاجتماعى والاستثمار.
الفكرة والمبدأ الأخلاقى والقيمة العليا الجامعة غائبة عن مجتمعنا حتى كدنا نصبح شعوباً فرضت عليهم عوامل الجغرافيا والتاريخ العيش فى وطن واحد. وفيما وراء مبدأ الوطنية المصرية الذى يتفق عليه أغلبنا وتتخذه مؤسسات الحكم عقيدة لها، والذى حفظ لهذا البلد وحدته فى ذروة التأزم، فإننا نبدو مختلفين على كل شىء آخر بدءاً من الشكل الذى يجب أن تكون عليه ملابسنا، انتهاءً بعلاقتنا بالعالم وموقعنا فيه.
الجيش وسلاحه ركيزة مهمة للدولة والوطن، لكن ما ينقصنا لاستكمال عناصر الدولة كثير ويستحق من الحكام والنخب وأصحاب الضمائر تفكيراً وتدبراً وخططاً واضحة لا تقل فى أهميتها عن خطط الاقتصاد واستراتيجيات الحرب.