التحرير
أحمد بان
إصلاح التعليم الديني في مصر
كلما ردد البعض ضرورة إصلاح الخطاب الدينى، كمقدمة جادة للاشتباك مع قضية التطرف والإرهاب الذى ضرب مجتمعاتنا، تحدث البعض عن التعليم الدينى وضرورة إصلاحه حيث يجمع الكثيرون، أن إصلاحه هو المدخل الصحيح.

لكن الإصلاح يصطدم بالعديد من العقبات، وأهمها ما هو المنهج الحاكم وما هى الفلسفة؟ فى الخمسينات كتب خالد محمد خالد الأزهرى الغاضب من أزهره، مقالا بجريدة الجمهورية يقول فيه "نريد فقها ماركسيا ونحوا فرنسيا وبلاغة إنجليزية فى الأزهر ولا نريد الكتب الصفراء القديمة"، كان الرجل ميالا للماركسية واعتقدها منهجا مناسبا لإصلاح التعليم بالأزهر، وكتب كتابه "من هنا نبدأ "ورد عليه الشيخ محمد الغزالى رحمه الله بكتابه "من هنا نعلم"، وكان هناك وقتها العالم الأزهرى التقدمى أيضا محمد عبدالمتعال الصعيدى، الذى كان يثير قضايا هامة تتعلق بالتجديد والتطوير.

يعتقد البعض أن أصل الداء أن الأزهر خرج من عالميته، وجرى تمصيره عبر ثورة يوليو التى كان هاجسها اختباء الإخوان كفصيل سياسى يخلط الدين بالسياسة داخله، وتحويله إلى واجهة لنشاط أممى تؤمن به الجماعة، عزز ذلك إجراءات التمصير التى نسفت واقعا كان فيه عميد كلية الشريعة فلسطينى الأصل كالشيخ عيسى منون، وكان شيخ الأزهر تونسيا منح الجنسية المصرية هو الشيخ محمد الخضر حسين، وهؤلاء كانوا آخر جيل تسلم مناصب رئيسية فى الأزهر، كانت تعطى الأزهر بعده الإسلامى العام والشامل وليس البعد الإقليمى المحلى، باعتباره مرجعية للعالم الإسلامى لكن عام 1954 كان الحد الفاصل بين عالمية الأزهر وامتداداته، وبين إقليميته وانكماشه تحويله إلى بعده المحلى، حيث تمت عملية تمصيره عندما اختلف الشيخ الخضر حسين مع بعض رجال الثورة، فانطلقت المظاهرات التى قام بها طلاب من الأزهر بتحريض من حكومة الراحل جمال عبدالناصر كما أشيع آنذاك، وهتفت تلك المظاهرات ضد الشيخ وتسببت فى استقالته، يحكى الدكتور طه جابر العلوانى العراقى الأزهرى، أنه شهد تلك المظاهرة وشاهد الشيخ يخاطب باكيا المتظاهرين، ويؤكد أنه لم يفرق فى حياته كلها بين مسلم وآخر، فكيف اتهم بالتفريق بين الطلبة المصريين وغيرهم ثم دخل وجمع أوراقه وغادر مكتب المشيخة، وغادر معه كل ظل لعالمية الأزهر، خصوصا بعد أن اكتملت الكارثة بتأميم الأوقاف فى العام 1955، والتى أكملت مع قانون إصلاح الأزهر فى العام 1961، بإلغاء اختيار هيئة كبار العلماء بالانتخاب، لاشك أن تراجع إمكانات الاستقلال المالى انعكس على الاستقلال الفنى الذى تراجع تحت مطارق السلطة السياسية، بالشكل الذى أنتج واقعا مترهلا تقدمت فيه رموز المحافظة على حساب رموز الإصلاح والتقدمية، التى بقيت متهمة دائما تحت دخان السياسة وصراعاتها، والتى ساهمت جماعة الإخوان بنصيب وافر فى تعزيزها، حيث بقيت السياسة الناصرية فى دائرة من يتحفز دائما لخطط الجماعة بخطط بديلة عطلت كل دعاوى الإصلاح المالى أو الفنى، الذى يدخل فى صلبه الحديث عن إصلاح مناهج وخطط هذا اللون من التعليم، وقد قدم الدكتور طه جابر العلوانى رحمه الله هذا العالم العراقى الذى تلقى تعليمه بالأزهر رؤية واضحة وجدنا أنه من المناسب تضمينها مقالنا، لما تضمنته من رؤى ثاقبة تنير هذا النفق المظلم، الذى توارت فى ظلامه كل محاولات الإصلاح حيث حدد مجموعة من العوامل الهامة التى لخصها فى كتابه التعليم الدينى بين التجديد والتجميد.

1- إن التعليم الدينى فى حاجة إلى أن تعاد صياغته، بحيث يكون قادرا على بناء شخصية إسلامية متوازنة عقليا ونفسيا، تتحلى بالفاعلية والإيجابية تدرك دورها فى الحياة وغايتها فيها، وأنها لم تخلق عبثا ولم تترك سدى، بل الإنسان خلق لغاية وحمل أمانة واختبر فى أجل محدد هو بالغه.

2- صياغته بحيث يكون قادرا على تخليص العقل المسلم من الثنائيات الحادة فى سائر المجالات، لأن من شأن تلك الثنائيات إذا لم توضع فى إطار سليم وتفهم فى توازن دقيق، أن تبنى آلية للتمزق الداخلى فى النفس الإنسانية.

3- إن التعليم الدينى مطالب بأن يعلم الناس "أن الدين عند الله دين واحد هدفه هداية الأسرة الإنسانية الواحدة التى تسكن بيتا مشتركا واحدا هو الأرض، ينبغى أن تسود بينها قيم مشتركة وحضارة مشتركة قواعد تفكير مشترك، ليتجه الإنسان المستخلف بذلك بكليته وبجميع طاقاته وشعوبه نحو تحقيق غاية الحق من الخلق.

4- إن دراسة العلوم النقلية بالطرق التقليدية التى اتسمت بها فى بدايات عصر التدوين، وفى ظروف أزمات الأزمة، لن تؤدى إذا لم تراجع وتعدل إلا إلى مزيد من التمزق والانغلاق وبذر بذور الصراع والنزاع، ولذلك فلابد من بناء جسور واصلة بين العلوم والمعارف النقلية والعلوم والمعارف الأخرى من طبيعية واجتماعية وسلوكية، لعدم إعطاء أية فرصة لإنغلاق النسق المعرفى المؤدى بدوره لإنغلاق عقل المتعلم وجموده، وبناء مصادر التعصب والتزمت فى عقله ونفسه.

5- لابد من جعل المتعلم واعيا بنقطة الثبات المرجعية، التى تعطى للعلم والمعرفة القبلة والغاية والاتجاة.

6- لابد من تعليم طلاب المعرفة كيفية ممارسة النقد البناء، والوعى بالمنهج وكيفية ضبط المعرفة بأنواعها به.

7- إحياء مبدأ تصنيف المعارف إلى ماهو ممدوح وما هو مذموم بمقتضى المنهج القرآنى، للعلم والمعرفة فعمر الإنسان رأس ماله وهو محدود جدا، فينبغى استثمار العمر فى العلم النافع الذى يؤهل الإنسان لممارسة ما أوكل الله تعالى له من مهام فى هذه الأرض، من استخلاف وعمران والتزام بالقيم التى حددها القرآن المجيد، فلا خير فى معارف من شأنها الإفساد فى الأرض وتدمير القيم وتجاهل الغايات والابعاد الكونية، أو الاستهانة بالمسؤولية فى هذه الحياة الدنيا.

8- إننا فى حاجة إلى بناء برامج تعليمنا الموحدة على قاعدة الجمع بين القراءتين (ويقصد بها كتاب الله المنظور الذى هو الكون بكل علومه، وكتاب الله المسطور وهو القرأن الذى بين أيدينا)وانطلاقا من هذه القاعدة المتينة الراسخة سيؤدى بنا ذلك إلى بناء نسق معرفى يستوعب أزماتنا المعاصرة ويتجاوزها، وفقا لمعطيات هى: إعادة الإرتباط بين الوحى الإلهى بمفهومه الدقيق، وبين الوجود الإنسانى والكونى ليكونا معا مصدرين للمعرفة البشرية متكاملين تتم قراءة كل منهما بالآخر قراءة إنسانية، إعادة الإرتباط أيضا بين العلم والقيم الإنسانية العليا كالتوحيد والتزكية والعمران، بحيث تتحول القيم الحاكمة إلى ضوابط ومعايير تحدد وجهة العلم وغايته وتحكم سلوك العاملين فى حقوله المختلفة، وإرجاع العلوم الإسلامية إلى طبيعتها الاجتماعية والإنسانية والعمرانية، وإخراجها من دوائر الانغلاق والفكر الجامد وضبط العلاقة بين المطلق والنسبى والثابت والمتغير، تأسيس القواعد المعرفية للحوار بين الأديان والثقافات والشعوب حوارا قائما على إدراك سليم ومعرفة حقيقية عادلة، تجعل الجميع محكومين بقواعد الحق والعدل وليس الصراع ونفى الآخر وإعدام الضد وبذلك يتحول العلم الى وسيلة للتعارف الدينى والثقافى والحضارى العالمى خصوصا بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة.

إنظلاقا من هذا التصور المستنير المهتدى بالجمع بين قراءة القرأن المسطور والمنظور، مع الاطلاع والتحليل والاستفادة بالتجارب والخبرات البشرية، نستطيع أن نلمس أثار تطوير مناهج التعليم الدينى فى خلق شخصية مستنيرة، تبقى الإساس فى عملية الإصلاح.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف