وقد لايكون سلوك المتظاهرين المصريين مثاليا في كل الأحوال، وهذا صحيح تماما، بسبب ضعف التنظيم عموما في المجتمع، وبسبب بعض الشباب
إذا أنت أغلقت طريقا دون أن تفتح طريقا آخر، فسوف تكون سببا في صناعة الزحام والاختناق وحرق الأعصاب، وما يحدث في المرور يحدث في السياسة، فمنع المعترضين علي اتفاقية «تيران وصنافير» من التظاهر، لا يحل المشكلة، ولا يضيف إلي قوة النظام، بل يجعل الغضب من اتفاقية غضبا علي النظام كله، ويدفع المعارضين السلميين إلي أحضان الإخوان الراغبين في الانقلاب علي الحكم، ويجعل أجهزة الأمن كالدبة التي تقتل صاحبها بدعوي الخوف عليه من ظل ذبابة.
وقد بحت أصواتنا من المناداة بتعديل قانون التظاهر السلمي، والمطعون عليه أمام المحكمة الدستورية العليا، والمخالف للدستور بالجملة، فالدستور يجعل التظاهر واحدا من الحريات الأساسية، ويعطي للمواطنين الحق في التظاهر بمجرد الإخطار، وليس بطلب ترخيص من وزارة الداخلية، والأخيرة تمتنع في العادة عن التجاوب مع أي إخطار، وتعتبر كل دعوة للتظاهر انقلابا علي نظام الحكم، وتشن حملات اعتقال عشوائية علي دعاة التظاهر، وكأن المظاهرات السلمية جريمة، وليست حقا دستوريا، وهو ما يدخل الوضع العام في حلقة مفرغة من القلق، فوق «سواد وش» البلد في الدنيا كلها، وتراكم الاحتقانات والمظالم، واكتظاظ السجون وأقسام الشرطة بالشباب، وتغذية نوازع الإرهاب، وجعل أجهزة الأمن جانيا وضحية لا حاميا، فالأصل أن تحمي أجهزة الأمن المظاهرات السلمية في زمانها ومكانها المحددين، وألا تتصدي فقط سوي لظواهر الجنوح والانفلات والتحطيم والاعتداء علي الأملاك العامة والخاصة.
وقد لايكون سلوك المتظاهرين المصريين مثاليا في كل الأحوال، وهذا صحيح تماما، بسبب ضعف التنظيم عموما في المجتمع، وبسبب بعض الشباب الذي يتصور أن الدعوة لمظاهرة هي دعوة للثورة بالضرورة، وفي أذهانهم ما جري في 25 يناير 2011 وفي 30 يونيو 2013، فقد بدأتا بمظاهرات تحولت إلي ثورات خلعت الرءوس، ولكن دون أن يتغير النظام جوهريا، فالحلقة المفقودة هي غياب حزب للثورة اليتيمة، وخيانة السياسة بالتالي لقضية الثورة، وهو ما لايلتفت إليه بعض الشباب المهجوس بصفة الثورية دون وعي كاف، ويتصور في التظاهر سلوكا لإثبات صفة مراوغة، ولا يعرف من مظاهر الثورة سوي الخناقات والمعارك مع الشرطة، وهذا خطأ شنيع في الحساب، لايخدم عمليا سوي قوي الثورة المضادة من جماعة الإخوان وغيرها، لكن الخطأ لا يبرر الخطأ، ومنع تظاهر الشباب «الثوري» يفاقم المحنة، ويغلق مجال التنفس السياسي العام، ويضيف عداوات لاتصب سوي في طاحونة الإخوان، وهو بالضبط ما تفعله أجهزة الأمن وأصواتها الناعقة في الإعلام، والتي تصور كل راغب في التظاهر كما لو كان إخوانيا بالضرورة، أو مأجورا من جماعة الإخوان، بينما أغلب المتظاهرين في قضية «تيران وصنافير» ممن لايشك عاقل في وطنيتهم، ولا في عدائهم للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، حتي وإن اختلطت عليهم الأوراق والحقائق والوثائق، وتعذر العلم النافي للجهالة في أصل وفصل قضية «تيران وصنافير».
ومحصلة ما جري ويجري من أخطاء وخطايا، أن الساحة صارت فارغة من السياسة، وجري إخصاء حيوية المجتمع، ولم تنتصر قضية الثورة، ولا انفتحت الطرق لانتصار قريب يأمله دعاتها، وزادت حالة «التوهان» العام، وانصرف الشعب المنهك مؤقتا عن الثورة، تماما كما ينصرف عن النظام الذي يفضل «المقاولة» علي السياسة، ويتصور أن أجهزة الأمن كفيلة بتنفيذ مقاولة صناعة الاستقرار، وهو تصور يخدع أصحابه قبل غيرهم، فالاستقرار يصنعه الرضا الاجتماعي والسياسي، والاستقرار تصنعه الثقة في دولة مؤسسات حقيقية، والاستقرار يبني بضمان الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبينها حقوق الناس الديمقراطية في التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، وفي ترقية وتهذيب السلوك السياسي باتصال وتصويب الممارسة التي تصحح الأخطاء ذاتيا، وهو ما لم يتحقق إلي الآن، ولا انفتحت السبل لتحقيقه تدريجيا، فثمة حرص ظاهر علي تجنب السياسة كأنها من رجس الشيطان، وعلي اصطناع مؤسسات دون النظر في حجم الثقة بها، صحيح أن أحدا لم يعد يزور الانتخابات في صناديق التصويت، لكن الناس لم تعد تقبل علي الانتخابات العامة ولا انتخابات النقابات، وثمة تراجع مفجع في نسب الاقبال علي التصويت، وعلي طريقة ما جري في انتخابات نقابات مهنية تواترت في الفترة الأخيرة، وقبلها في انتخابات البرلمان، والتي فاز من فاز بها بنسبة تقل عن عشرة بالمئة من إجمالي أصوات الناخبين المقيدين، وهو ما جعلنا أمام «ميني برلمان» انتخبه «ميني شعب»، زادت طينته بلة مع «مقاولات» شراء المرشحين والناخبين، فقد أدار الشعب ظهره للقصة كلها، وحواس الشعوب لا تخطئ المعاني، والشعب هو المعلم الباقي، وهو ما لايدركه النظام، ولايدركه كثير من الثوريين أو المتظاهرين بالثورية، والذين يحصرون قضية الثورة في «مقاولة» مظاهرات.
وقد يقال لك إن القصة لاتخلو من مؤامرة، وأن جماعات بعينها تتلقي تمويلا أجنبيا، وتسعي لركوب موجة غضب شعبي ووطني، وهذا كلام صحيح جزئيا، لكنه ليس مقصورا علي جماعات سياسة ملوثة تتلقي تمويلا خارجيا بعلم الدولة (!)، بل إن جماعات البيزنس تلعب الدور الأخطر في المؤامرة، وكثير منها يبدو كأنه جزء من النظام نفسه، ويحرق الأرض تحت أقدام الرئيس، وبهدف ترويعه واحتواء قراراته، وهؤلاء لايتحدث عنهم أحد، بل تتحالف معهم جماعات أمن، وتعاونهم في السيطرة علي البرلمان والإعلام والجهاز الحكومي، وتلعب مع النظام علي طريقة «شوف العصفورة»، وتلفت النظر عن نهبها وجرائمها بالتحريض علي شباب ثوري نقي غالبا، ودفعهم إلي غياهب السجون، وبتهم غليظة من نوع التخطيط لقلب نظام الحكم، ناسية أن النظام الذي يخاف من مجرد مظاهرة سلمية لا يستحق البقاء.
نعم، ثمة أزمة محتدمة، ولا سبيل لمعالجتها سوي برد الاعتبار للسياسة الغائبة، والبدء بإخلاء سبيل آلاف الشباب المتهمين بالتظاهر السلمي، وإعلان الحرب علي الإرهابيين والنهابين معا.