بعد منتصف العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، اتخذ الطفل من جده موقع المستمع الرصين، بينما انشغل الجد بتخليل أطراف أصابعه بين شعر رأس الحفيد، وبدأ يسرد قصة الليلة، وتصدرت عباراته، البداية التقليدية لقص الأجداد (كان ياما كان فى سالف العصر والأوان)، كانت جمل الجد تنتقل بين فمه وفم الحفيد بتناغم أدمن فيه كلاهما التكرار. حتى يصلا إلى (ما يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه السلام)، فيعلو صوت الحفيد (عليه الصلاة والسلام).
يروى الجد قصة لا يذكر غيرها كلما أعياه التهرب من الحفيد، عن ذلك الملك الذى كان، عظيم البطش وطاغى السلطان، مَنْ اقترب من ملكه متملقاً أدناه، ومَنْ سولت له نفسه المعارضة أقصاه، ومَنْ مارس فعل المعارضة أفناه، حتى كان أن أتاه محتال يختال، وأقنعه بأن يفصل له زياً لا يراه إلا الأذكياء، ولا يدرك حسنه إلا ذوو النبل والوجهاء، وعاش المحتال يدعى النسج أيام، ويتمنى فتتحقق له الأمانى والأحلام، حتى كان اليوم الموعود، وحضر الملك ليرتدى اللباس المنشود، وأمره المحتال فخلع ما عليه من لباس، وألبسه الهواء وزعم أنه يضبط المقاس، كان الملك عارياً لكنه خاف أن يقول، فيصبح فى زمرة أغبياء العقول، وخرج على حاشيته لايوارى عريه شَيّ، لكنهم أكدوا انبهارهم بجمالٍ لم يسبقه إلى مليكهم زَيّ، وأجمعت الحاشية على إنكار عرى بأعينهم عاينوه، حتى لا يفضحوا غباء انسحاق عايشوه، وعندما سار الملك عارياً بموكب عزه وكماله، خاف الناس من بطشه واشتعاله، فراحوا للثوب الغائب يهتفون، ولروعة القد الملكى يغنون، حتى قطع هتاف الغباء المهول، صوت طفل ضاحك يقول (إنى أرى الملك عارياً).
يقول الجد وهو يعتدل فى جلسته مرتاح الضمير، وهكذا كشف الطفل النبيه جموع الطراطير، وفضح الصامتين خوفاً، وألجم الهاتفين خوفاً، وأسقط المتزلفين خوفاً. و (توته توته خلصت...) لكن الحفيد يقاطعه (جدو يا جدو)، يبدأ صبر الجد فى النفاد، (ألم نتفق على حدوتة واحدة)، يهز الحفيد رأسه موافقاً ويتابع (لكن عندى سؤال)، وراضخاً يرد الجد (اتفضل ياسيدي)، فيسأل الحفيد (هوا الراجل النصاب ده كان معروف إنه نصاب؟)، ويجيب الجد مؤكداً أنه كان مشهورا عنه النصب والاحتيال، فيتعجب الحفيد ويسأل بعفوية (وإزاى قدر وهوا نصاب يوصل لحد الملك؟)، يبدأ الجد فى الارتباك، ثم يتماسك مبرراً (نصاب بقه يا سيدي، لبس هدوم خياط ودخل)، لكن الحفيد يقف فى مواجهة جده مشيراً بإبهامه (إزاى ده يا جدو يعنى ماكانش عندهم بوليس؟). يبتسم الجد (لا كان عندهم بس أصله كان جاى من بلد تانية)، فيرد الصبى بتلقائية (ولما هوا جاى من بلد تانية الجيش ما قبضش عليه ليه؟). تتسع عينا الجد حتى تتجاوز إطار النظارة ويؤكد تبريره السابق (ما أنا قلت لك نصاب ضحك على الكل، بس هيا الحكاية خلصت لما الولد الصغير فضحهم، وهات لى منديل علشان أمسح النضارة).
يركض الصبى تجاه علبة المناديل ويسحب واحداً ويعود به سريعاً ليتابع أسئلته (والوزرا بتوع الملك كان إيه موقفهم ضحك عليهم النصاب برضه)، ويجيب الجد دون أن يرفع عينيه من على نضارته (للأسف حصل)، فيتساءل الطفل (يا سلام يا جدو، كل الوزرا ما بيفهموش)! يهز الجد رأسه وهو يؤكد (ده كان زمان قوي)، لكن الحفيد يرفض منطق التبرير الذى يمارسه جده (زمان ولا دلوقتى هما يعنى مش كان عندهم عقل، وإذا فرضنا إن النصاب ضحك عليهم كلهم إزاى فضلوا وزرا؟)، يدرك الجد أنه وقع فى فخ الوعى الناضج لطفل العصر المختلف فيرد مطمئناً حفيده (ما هو الملك بعد كده غيرهم كلهم)، عندها يضحك الحفيد حتى يسقط فى حجر الجد الذى يجدها فرصة ليدغدغ الطفل فينجو من حواره المباغت، لكن الطفل يهرب من يد جده ويقول له (الملك إزاى يغير الوزرا وهوا كمان اتنصب عليه؟!). ويُطبِق الصمت على فم الجد الذى ينظر فى اتجاه الطفل محاولاً أن يجارى وعياً ناشئاً يهدم أسطورة حكى نشأت عليها أجيال. ويهديه تفكيره إلى الهرب بتغيير الأدوار (إيه رأى ك.. أنا ظهرى وجعنى هأفرد ظهرى أنا وإنت تحكى لى الحدوتة؟). يفرح الحفيد ويتجه إلى حيث رأس الجد يساعده ليضعها فى حِجْرِه الصغير، ويبدأ فوراً (يالا بينا نكمل الحدوتة، الملك خرج بهدومه اللى مش هدوم، والوزراء وراه بيهتفوا لحسنه وجماله، والشعب كله على الصفين واقف شايل يفط، وماسك أعلام، وبيهتف للملك السمبتيك، وهدومه الشيك، بس هوا كان عريان، وبعدين ولد صغير قدى كده يا جدو، بص لهم وضحك قوي، كان بيضحك على الكل الملك والوزرا والناس، بعدين وقف وإدى ضهره للملك ووشه للناس وقال لهم إنى أرى الشعب عارياً)! كان شخير الجد قد بدأ يسري، وكانت قدما الحفيد قد أصابهما الخدر لثقل رأس الجد فأزاحها، استيقظ الجد، نظر لحفيده المبتسم كان يقول (الشعب هوا اللى طلع عريان يا جدو)، تقلب الجد على جانبه الأيمن، قال وهو يمضغ لعابه (ليه هوا كمان الخياط نصب عليه؟)، فأجابه الحفيد وهو ينزل من على السرير (يا جدو الناس اللى عندهم ملك ووزرا بيتنصب عليهم، أكيد شعب عريان يا جدو) !