الصباح
حلمى النمنم
نصف قرن على وفاة فاروق الأول.. ملك الأحلام المجهضة
*الأسوأ حظًا بين أفراد الأسرة العلوية رغم تفرده بإجادة اللهجتين الفصحى والعامية
*كان ضعيفًا وغير صالح لحكم مصر.. لكن أحدًا لا يمكنه التشكيك فى وطنيته
*أمر الحرس الملكى لقصر رأس التين بعدم إطلاق النار على دبابات الضباط الأحرار

الأربعاء الماضى مر نصف قرن على وفاة الملك فاروق، أتعس ملوك مصر وحكامها والأسوأ حظًا بينهم، وهو الأكثر تفردًا بين حكام مصر من أسرة محمد على، هو الوحيد بينهم الذى كان يجيد اللغة العربية، سواء الفصحى أو العامية، بينما معظمهم كان بالكاد يعرف العربية، كانت التركية لغتهم الأولى ثم الفرنسية أو الإنجليزية وبعض كلمات من العربية بلكنة تركية، وهو أيضًا الذى تعرض لمضايقات وربما خيانات بالمعنى المباشر والمجازى من أفراد أسرته، أمه وزوجته فريدة، وعمه وآخرين، من المحيطين به، هو كذلك أكثر الحكام المعاصرين الذى طُمس تاريخه تارة، وتم التشكيك فيه تارة أخرى.
فى سنة 2002 وبمناسبة مرور نصف قرن على ثورة يوليو 1952 وتخليه عن الحكم أو تنازله عن العرش قلت إن فاروق كان حاكمًا ضعيفًا، ولم يكن يصلح لحكم مصر، لكنه لم يكن خائنًا، بل كان وطنيًا ولا يمكن التشكيك فى وطنيته، قلت ذلك لأننى من الجيل الذى درس فى كتب التاريخ المدرسية أن فاروق كان «الملك الخائن»، وحين قلت ذلك وقتها تعرضت للانتقاد وللهجوم من بعض الزملاء، فقد كان عالقًا فى الأذهان وقتها أنه خائن، وهو لم يكن كذلك، وأرانى اليوم ما زلت على هذا الرأى، وبعد ما تعرضنا له من محمد مرسى وجماعته يمكن أن نفكر فى أن نقيم تمثالًا للملك فاروق.
لم يكن فاروق مهيأً لحكم مصر، توفى والده دون أن يكمل السادسة عشرة من عمره، ولم يكن أتم تعليمه، بل إنه لم يحصل طوال حياته على أى شهادة دراسية، كان والده جاء إليه بمعلمين يشرحون له بعض الدروس فى القصر، لكنه لم يلتحق بأى مدرسة، ومن ثم لم ينل أى شهادة، تولى الحكم بمؤهل واحد فقط هو أنه ولى العهد ونجل الملك أحمد فؤاد، لذا لم يكن جاهزًا لأن يحكم وراح ضحية الظروف والأجواء السياسية المسممة فى مصر، من سطوة الاحتلال البريطانى وإصرار الوفد على معاملته باعتباره مجرد «غلام» أو «صبى» وليس ملكًا، فضلًا عن جيوش المنافقين والانتهازيين الذين أحاطوا به، فكان ما كان، عدم جاهزيته للحكم، لا تعنى أنه خائن ولا التشكيك فى وطنيته.
يوم 26 يناير 1952 فجرًا، اقتربت دبابة من قصر رأس التين بالإسكندرية حيث كان يقيم الملك، وحاول أحد أفراد الحرس الملكى أن يوقفها، وتم تبادل إطلاق النار بين أفراد الحرس وأفراد ينتمون إلى مجموعة الضباط الأحرار، وسقط أحد أفراد الحرس الملكى قتيلًا، استمع فاروق من الداخل إلى إطلاق الرصاص، فخرج إلى الشرفة مناديًا الحرس بعدم إطلاق النار، وقال على مسمع من المحيطين به «لن أكرر ثانية حكاية عرابى وتوفيق»، يقصد أحمد عرابى والخديو توفيق، حيث أدى الصراع بينهما إلى تدخل الجيش البريطانى واحتلال مصر سنة 1882، ولما تقرر أن يغادر مصر نهائيًا، كان أن أوصى محمد نجيب بمصر والجيش المصرى، ولم يطلب ولا استعان بقوة أجنبية ضد جيش بلاده وضد مصر، وغاية اتصالاته بالسفير الأمريكى فى مصر «كافرى» آنذاك، أن يتم تأمين خروجه من مصر، وأن يتم تأمين يخت المحروسة فى عرض البحر، وهو فى طريقه إلى إيطاليا، منفاه الأخيرة الذى ارتضاه، قارن ذلك بما فعله د. محمد مرسى وعصام الحداد وعصابات الجماعة ومكتب الإرشاد بحق مصر والمصريين منذ ثورة 25 يناير وحتى اليوم، من تدمير وتحطيم وقتل، فضلًا عن محاولة استدعاء قوى أجنبية ضد مصر والمصريين من أجل مقعد السلطة الذى استرقوه من المصريين لمدة عام.
أظن أن كثيرًا من المصريين أدركوا متأخرًا وطنية الملك فاروق وإخلاصه لهذا الوطن، وعاش فى إيطاليا حياة بائسة لمدة 13 عامًا، وكانت سيرته موضع انتهاك من بعض الكتاب وتمت إشاعة الأكاذيب حوله، بدءًا من «ليالى فاروق» التى بدأ الراحل مصطفى أمين فى كتابتها فور خروج فاروق من مصر، ونشرت فى «أخبار اليوم» وظهرت فى كتاب من جزأين، وتوالت الكتابات ليرسخ فى الأذهان أن الملك فاروق كان سكيرًا وكان زير نساء، وأن والدته نازلى تزوجت سرًا من أحمد حسنين بعقد عرفى، وأن زوجته الملكة فريدة، كانت ضحية نزواته النسائية، ومن يراجع الأوراق بدقة، سوف يكتشف أن كل ذلك كان مخالفًا للوقائع.
لم يثبت أن الملك فاروق ذاق الخمر أبدًا، وما كان يقدم له فى الحفلات بعض العصائر، وكانت الأكواب تلف بمناديل أو فوط معينة، حتى لا يتبين أحد حقيقة ما فيها، ذلك أن الخمور كانت الشراب المعتمد فى هذه الحفلات والجلسات، وهو لم يكن يشرب مثل الآخرين، لذا كان يخفى ما فى داخل الكأس، وبدلًا من أن يتوقف البعض عند سبب ذلك، تخيلوا أنه يشرب أنواعًا خاصة ونادرة من الأنبذة والخمور.
الأمر نفسه ينطبق على علاقاته النسائية، فاروق تعرض لحادث بشع فى طريق القصاصين، حيث صدمت سيارة ضخمة للجيش الإنجليزى بسيارته الخاصة، وإلى الآن لم تظهر الوثائق البريطانية عن هذا الحادث، لكن الواقع أنها كانت عملية مقصودة لاغتيال فاروق أو إصابته إصابة يفهم هو مدلولها، كان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، لحظة تقدم وانتصار جيوش ألمانيا على الحلفاء، وكان فاروق على اتصال بالألمان، عبر سفير مصر فى طهران، وتأكدت المخابرات البريطانية من اتصالات فاروق ورجاله، ويبدو أنها قررت أن توجه له رسالة قاسية، دمرت حياته بالكامل.
أدى الحادث والعلاج منه إلى خلل هرمونى حاد تعرض له، وترتب عليه سمنته المفرطة مما أفقده جماله ووسامته البدنية التى قربت صورته من المصريين ومن العرب ليصبح سمينًا له مظهر وحشى مترهل، وأحدثت الإصابة شروخًا فى العمود الفقرى، ما أثر على قدراته الجنسية، الأمر الذى انتفى معه أن يكون زير نساء، وربما للتعويض النفسى كان يحرص على أن يكون محاطًا ببعض الجميلات، لكن لم يتجاوز الأمر أكثر من ذلك، وروى حارسه الخاص فى مذكراته أن راقصة مشهورة ذهبت إليه فى «ركن فاروق» بحلوان، ولما خرجت من عنده رماها أحد الحراس بتعليق بذىء، فردت عليه ردًا فهم منه أن الملك فاروق «ليس منه رجاء»، لكن كما يقال «الصيت ولا الغنى»، راح خيال البعض يصور الرجل فى صورة شهريار، الذى ضجت من مغامراته زوجته الملكة فريدة الضعيفة، العفيفة، رغم أنه هو الذى ضج منها وبها، حيث لم تراع حالته النفسية والصحية، بل راحت تضغط على نقاط ضعفه، وتعمدت إهانته، وتلك قصة أخرى، لكن حين وقع الخلاف بين فاروق وفريدة ثم تم الطلاق، كان الملك على عداء مع الوفد، فوقفت صحف الوفد إلى جوار فريدة نكاية به وفيه، رغم أن الأمر فى النهاية كان يتعلق بزوج مجروح ومهان فعلًا من زوجته التى تبدو وديعة وهادئة فى الصور الفوتوغرافية.
لم يكن القهر الذى تعرض له فاروق من أمه أقل من القهر الذى تعرض له من زوجته، والسائد إلى اليوم أن نازلى تزوجت «سرًا» من أحمد حسانين رئيس الديوان الملكى والمربى الخاص لفاروق، ولكن فى دراسته عن أحمد حسانين ذكر مصطفى أمين أن عقد زواج الملكة نازلى من حسانين باشا عقده شيخ الأزهر الشيخ المراغى، وبشهادة أحمد لطفى السيد (باشا) وجعفر والى (باشا) وكل منهما كان وزيرًا، وبهذا المعنى فإن توقيع العقد لم يكن سرًا، وليس من المنتظر من الشيخ المراغى أن يقدم على هذه الخطوة دون علم جلالة الملك، ولكن الصحيح أن الخبر لم يصل للرأى العام ولم تقم احتفالات خاصة به، ومعنى أن يقبل فاروق زواج أمه على هذا النحو، أنه لم يكن أمامه بديل، فالملكة الأم أغرمت بحسانين باشا، والباشا كان يعرف حدود القصور، ولم يقبل إلا علاقة شرعية، والأمر المؤكد أن نازلى وضعت ابنها بين خيار الزواج أو تنطلق وراء شهواتها مع الضباط الأجانب فى مغامرات صغيرة تسىء إلى العرش وإليه شخصيًا، وبعد وفاة حسانين اندفعت السيدة فى جنون النزوات، ما دمر ابنها معنويًا.
لا يحتمل هذا المقال أن أعدد جوانب المعلومات المغلوطة عن الملك فاروق، الذى كانت حياته مأساة إنسانية على أكثر من مستوى، هو رجل الأحلام المجهضة، سواء فى حياته الشخصية أو العامة، كره من أعماقه الاحتلال الإنجليزى وتمنى استقلال مصر، ولم يتمكن من إنجاز ذلك، وحاول جاهدًا منذ أن تولى حكم مصر سنة 1936 أن يوقف انتزاع فلسطين من أيدى العرب ولم ينجح، بل قامت دولة إسرائيل منذ سنة 1948، هو أيضًا أحب مصر والمصريين وحاول أن يسعد الشعب المصرى، لكنه أخفق وفشل فشلًا ذريعًا، وربما كان هو أول من أدرك ذلك، لذا لم يتلكأ فى أن يتنازل عن العرش، متمنيًا لمن جاءوا بعده، اللواء محمد نجيب ورفاقه، أن يحققوا ما لم يقدر هو عليه، وتلك قمة الوطنية والرقى الإنسانى والنبل الأخلاقى، رحمه الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف