كمال حبيب
كيف تصنع تكفيريًا داخل السجن
*«شكرى مصطفى » دخل السجن وعمره 17 عامًا فتحول من كتابة الشعر إلى إعادة تفسير مصطلحات الإيمان وتجهيل المجتمع
*السجن جعل «سيد قطب » يتخلى عن حبه لأدب «العقاد »ليقع فى غرام الأفكار المتطرفة لكتابات المرشد الأفغانى
السجون هى البيئة الخصبة التى نشأ فيها التكفير المعاصر فى مصر، تلك حقيقة لا مراء فيها، ففى داخل السجون المصرية نشأت جماعة التكفير والهجرة، والتى أطلقت على نفسها «جماعة المسلمين »، وقد تزعمها شاب تخرج فى كلية الزراعة وتم اعتقاله مع المجموعات التى تم اعتقالها عام 1965 فى سياق صراع الدولة الناصرية مع جماعة الإخوان المسلمين.
هذا الشاب اسمه «شكرى أحمد مصطفى » من مواليد1942 م، أى أنه اعتقل وعمره سبعة عشر عامًا، وفى السجن ظهر تيار جديد داخل جماعة الإخوان متأثرًا بأفكار أبي الأعلى المودودى خاصة كتابه «المصطلحات الأربعة فى القرآن الكريم، الإله، الرب، العبادة، الدين »، لقد ذهب فى كتابه إلى أن العرب كانوا يفهمون تلك المصطلحات يوم أن خاطبهم بها النبى «صلى الله عليه وسلم »، ولذا لما دخلوا الإسام كانوا يعرفون معنى تلك الكلمات وتبعاتها، أما المسلمون المعاصرون فلايعرفون شيئًا عن معناها، ومن ثم فهم دخلوا شكلً فى الإسلام دون جوهره وحقيقته.
تأثر «سيد قطب » وهو من مواليد 1906 ، ودخل الإخوان المسلمين عام 1951 عقب عودته من رحلة إلى أمريكا ابتعثته إليها وزارة المعارف التى كان يعمل بها، تأثر بكتابات أبى الأعلى المودودى مؤسس الجماعة الإسامية فى باكستان، أعجبت سيد قطب طريقة المودودى فى الكتابة والتحليل وهو بحسه الأدبى حيث كان صاحب مدرسة أدبية،ومن تلامذة العقاد اختطفه أسلوب المودودى الذى كتب فى بيئة مختلفة عن البيئة المصرية.
رأى «سيد قطب » أن المجتمعات المعاصرة لا تعرف معنى الإسلام الصحيح ولا تعرف معنى مفرداته كما أشار المودودى، ومن ثم فإنه لا يمكننا استصحاب أحكام الإسلام لها بمجرد أنها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بل لا بد من أن يضاف إلى ذلك أن تعلم حقيقة لا إله إلا الله، وأن تعلم الكفر بالطاغوت لكى تؤمن بالله، وأنه لكى يعود الناس إلى الإسلام لابد من طليعة مؤمنة مستعلية بإيمانها تتعلم التوحيد، وتقوم تلك الطليعة المؤمنة بتطبيق الإسلام وإعادة الناس من جاهليتها إلى الإسلام الصحيح.
استخدم «سيد قطب » مصطلح الجاهلية ليصف به المجتمعات الإسامية والحكومات الإسامية، واعتبر الجاهلية هنا مرادفًا لانتقاض عُرى الإسام عن تلك المجتمعات والحكومات، واستخدم مصطلحات جديدة على الحالة الإسلامية فى مصر مثل مصطلح «التكفير والتوقف والتبين والعزلة الشعورية والجاهلية » واتخاذ البيوت قبلة كما فعل موسى فى عصر فرعون بمعنى أن يصلى الناس فى بيوتهم ولا يصلون فى المساجد لأن المساجد أصبحت مساجد ضرار لا يجوز الصلاة فيها.
أحدثت أفكار «سيد قطب » الجديدة هزة ضخمة، وقد كتبها كلها فى السجن بعد عام 1954 حيث حكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا، وأفرج عنه لأسباب صحية عام1964 ، ثم أعيد اعتقاله عام 1965 وأعدم عام 1966 ، حين قرأ «عبد الناصر » كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق »عرف أن الكتاب وراءه تنظيم، من هنا كان إصراره على إعدام الرجل.
أحدثت أفكار سيد قطب هزة فى السجن بين الإخوان،فهم لم يكونوا قد تعودوا على استخدام المصطلحات الجديدة لسيد قطب الذى بدأ يحكم على الناس والمجتمعات بأنها جاهلية، وأنها غير مسلمة، وأنها لا بد أن تستأنف الإسلام من جديد عبر إقامة الدولة الإسلامية والمجتمع المسلم، الذى اعتبره شرطًا ضروريًا لكى يكون الناس مسلمين، ولكى يكون المجتمع مسلمًا.
اضطرت الجماعة أمام الهزة التى أحدثها فكر سيد قطب أن تأخذ موقفًا منه حيث كانت أفكاره تنتشر كالنار فى الهشيم بين شباب الإخوان الذين كانوا يقولون لا يمكن لهذه الدولة التى تقوم بسجننا وتعذيبنا أن تكون مسلمة بل هى دولة جاهلية كما يقول سيد قطب، الموقف الذى اتخذته الجماعة هو إصدار مجموعة من البحوث المهمة بعنوان «دعاة لا قضاة »، وبصرف النظر عمن كتبه، ولكنها مهرت بتوقيع المرشد الثانى للإخوان «حسن الهضيبى ،»وتعد تلك هى الوثيقة الأهم فى تاريخ الجماعة بعد كتابات المرشد الأول «حسن البنا .»
اعتبرت الجماعة أن تنظيم 1965 من شباب الإخوان الذين تأثروا بأفكار «سيد قطب » خارجين من الجماعة،بيد إن المجموعة التى بقت داخل الإخوان ومنهم المرشد العام «محمد بديع »، وهم من يعرفون بمجموعة 65 هى التى سيطرت على الجماعة فى نهاية السبعينيات وقادتها إلى الانغلاق والمزيد من المحافظة والانتظار لفرصة تثأر فيها من الدولة المصرية، ذلك الثأر المؤجل من عام 1954 م.
فى زنازين شمال فى السجن الحربى أعلن شكرى مصطفى تمسكه بفكر التكفير بعد أن تبرأ من الفكر أستاذه الإخوانى الأزهرى «على عبده إسماعيل »، وقد خلع جبته الأزهرية فى سياق النقاش الفكرى تحت أقبية السجون حول قصة التكفير وقال إننى أخلع هذا الفكر كما أخلع جبتى تلك.
قرأ «شكرى » كل كتب الخوارج الأزارقة، وقرأ شعر الخوارج، وتأثر بأفكارهم التى تكفر المسلم بالمعصية، وتقول إن الإيمان كل واحد إذا ذهب بعضه ذهب كله،ومن ثم فإن من يعمل معصية واحدة يكون قد أضاع إيمانه كله، وأصبح خارجًا من الملة.
كان «شكرى » شاعرًا، وكان ذكيًا، واستوعب فى السجن وهو بعد صغيرأفكار الخوارج، وكتب عددًا من المذكرات التى انتشرت بين الشباب فى السبعينيات بعد خروج «شكرى » من السجن عام 1974 ، كان «شكرى » يقول الاشتراك فى المآل يوجب الاشتراك فى الحكم،ومن ثم فإن الكافر إذا كان مآله إلى النار فإن العاصى المسلم الذى يكون وعيده النار يكون مشتركًا معه فى الحكم أى يكون كافرًا مثله، ومن ثم إذا قلت الزانى فى النار والذى يهجر أخاه فوق ثاث فهو فى النار أو لا يدخل الجنة قاطع رحم فإن هؤلاء جميعًا اشتركوا فى المآل والوعيد مع الكافر الذى لم يقل لا إله إلا الله ومن ثم فهم مثله كفار.
كان «شكرى » يعتبر نفسه هو إمام الجماعة التى أسسها واعتبرها جماعة المسلمين، فمن يدخل الجماعة ويبايعه ويعترف بإمامته فهو المسلم، أما من هو خارجها فيتم التوقف والتبين من عقيدته حتى نحكم عليه بالكفر أو الإسلام.
السجون اليوم خطر كبير لأنها مرتع للفكر التكفيرى،ومن ثم لا بد من عمل حوار داخل السجون مع الشباب الصغير لبيان خطر التكفير عليه، كما لا بد من عزل هؤلاء الشباب الصغير بعيدًا عن أصحاب الخبرات السابقين، فالتاريخ يقول إن السجون تؤسس لشبكات من علاقات الود والمصير المشترك والوحدة الفكرية التى تكون أساسًا للذهاب للتكفير، وتأسيس تنظيمات تواجه الدول والمجتمعات.