وأكثر اثنين يتحدث عنهما إبراهيم عيسى– فى مشارف الخمسين- هما والداه اللذان هما نموذجان رائعان للآباء الذين يضحون بسعادتهم من أجل أبنائهم فى داخل الطبقة الوسطى, ليدفعا بهؤلاء الأبناء إلى مجاوزة حدود الطبقة الوسطى إلى ما هو أعلى منها.
والأب أزهرى منفتح الأفق كما أشرت من قبل، سرعان ما خلع زيه التقليدى وارتدى زى الأفندية فأصبح واحدا منهم بأفكاره السمحة وعقله المفتوح وثقافته المحدثة. وقد مر بنا مشهده وهو جالس يقرأ لابنه من القصص ما أسهم فى تغذية وجدان هذا الطفل والارتقاء بذهنه ودفعه إلى منطقة التفكير الحر. ومن أجمل المشاهد التى نراها له مشهده حين يضع شريط الكاسيت فى الجهاز، ويضغط على الزر الأحمر علامة التسجيل، وكان قد طلب من أولاده أن يتوقفوا عن الحركة والصخب فى الصالة، فكفوا عن اللعب، وكان قد بدأ فى قراءة خطبته التى سوف يلقيها فى حفل المولد النبوى الشريف فى جموع طلاب وأساتذة المدرسة فى ليبيا، حيث اغترب بعائلته للتدريس فيها، وكان يتدرب على الخطبة فى المنزل ويسجل أداءه، ولكن الحماسة أخذته فتألق كأنه أمام جمهور المدرسة فعلا، وكانت فخامة صوته وجلال أدائه وبلاغة عباراته قد صرفت الأبناء تماما عن اللعب حتى انتهى من الخطبة؛ فإذا بصوت الأم يأتى من المطبخ عاليا: صفقوا له يا ولاد، فاندفع الأولاد يصفقون بحماس وفرح. وظل هذا الشريط معهم أربعين عاما تالية، وينتهى بصوت الأم الفخورة بزوجها: "صفقوا له يا ولاد". ويعلق إبراهيم على ذلك المشهد بقوله كلما أنهيت حلقة من برامجى كان طيف صوتها يغمرنى، وأسأل: هل يمكن أنها تقول الآن صفقوا له يا ولاد؟!. هذا نموذج من التربية الثقافية التى تلقاها إبراهيم فى محيطه الأسرى ونموذج الفصاحة الذى تربى عليها. هذا الأب العالم وأستاذ اللغة العربية يراه ابنه أجدر خلق الله برحمته، فلم يحدث أن ضرب تلميذا فى فصله ولا ابنا أو بنتا فى بيته. وهى الحقيقة التى كانت تلح على ذهن إبراهيم كلما شهد انفلات أعصاب من حوله فى التعامل مع الأطفال ومدى ما تثيره تصرفات أبنائنا فينا من غضب وحنق يدفعه إلى أن يسأل نفسه مذهولا: كيف نستطيع التماسك الانفعالى أمام أطفالنا؟!. والدى فى منهج فذ لم يستسلم للإغراء الذى يجذبنا جميعا، حيث نملك على أبنائنا السلطة ونشعر تجاههم بالمسئولية، ويأتى التعليق الذى يستخلص المغزى قائلا: "السلطة والمسئولية تدفعان إلى الأذى الذى نستطيع أن نبرره دوما بنياته الطيبة ودوافعه الضرورية، ولكنه يظل أذى". وما أكثر ما يحكى لنا إبراهيم عن مشاهد ذلك الأب الحنون واستعداده الدائم للتضحية من أجل أبنائه. لكن الواضح أن هذا الأب المشغول بالثقافة والحريص على تثقيف ابنه وتعليم أبنائه كان خفيف الظل على نحو أورث ابنه خفة ظله، فنراه فى المشاهد الأخيرة وهو فى المستشفى والابن يمتلئ قلقا عليه بعد أن تركه فى الظهيرة، وقد علقوا محاليل فى ذراعيه التى تركت شكات الإبر آثارها عليهما، بزرقتها وخضرتها وعلامات البلاستر، ثم وضعوا القسطرة المتدلية من جنبه على الفراش، والتى كانت تصل بكيسها إلى أسفل السرير، نتابع لون سائله، فإذا كان مصطبغا بالحمرة نهشت قلوبنا سكاكين القلق، فهذا الأب الشيك الذى لم يتكرمش بنطلون له فى حياته وحافظ على رابطة الكرافتة فى عنقه أكثر من سبعين عاما، منذ أن ارتداها بعد أن خلع الكاكولة الأزهرية. هذا الأب الذى لم يتسخ حذاؤه أبدا حتى جاوز الثمانين عاما من عمره، كانت رقدته على سرير المستشفى برداء العناية مفتوح الطوق والظهر أمرا قاسيا على الأبناء، وعليهم أن يتحملوا، لكن إبراهيم حين دخل على أبيه، وكان برداء المستشفى المفتوح، وجده عفيا منفعلا هادرا يهتز طربا وانفعالا، واقفا أمام التليفزيون المعلق فى أعلى الحائط فى مواجهة السرير، وكانت شاشته صغيرة لا توضح للأب الصورة كما يريدها، فنزل عن سريره حاملا القسطرة بيده يرفعها عن الأرض ويقربها من ساقه، حتى لا تنفلت وتنخلع، وممسكا بالعامود المعلق فيه كيس المحاليل، مستندا إليه ويحيطه بذراعه المربوطة بالعامود، حتى لا تنفلت منه إبرة الحقنة، ويرى الابن أباه يتحرك حتى يصل إلى الشاشة فيقف أمامها ملتصقا بها يتابع ملهوفا ومستثارا ومتوترا وقلقا وهائجا زاعقا شاخطا متأوها أمام مباراة الزمالك. فاندفع الابن إلى الغرفة وقد خاف على أبيه صارخا فيه: "معقول يا بابا كده تسيب سريرك". فالتفت إليه الأب صارخا: "أنت ما بتشوفش الماتش إزاى، الزمالك كسبان واحد صفر". ثم أضاف وهو يعود ليمعن فى المباراة: "الواد باسم مرسى ده كويس قوى". فضحك الابن وذهب ليستلقى على سرير المستشفى يتابع المباراة ويشتكى إلى أبيه بأن حركته بالقسطرة وعامود المحاليل أمام الشاشة لم تسمح له أن يشاهد الجون الثانى، فقد كان كلاهما زمالكاويا فيما يبدو. لكن من أجمل المشاهد التى نودع بها الأب، حينما يصف لنا الابن كيف كان يقف هذا الأب تحت فروع الشجر التى تحميه من الحر، يختار دائما هذه الساعة بعد العودة من صلاة العصر وقبيل المغرب، يضع الخرطوم فى الحنفية عند ركن الحديقة الصغيرة التى يختلى فيها دائما والتى يرعاها كل يوم ليجعل منها جنته التى يعتزل فيها العالم والناس، فيرش أوراق الشجر ويغسله من الغبار ويقترب من شجرة الياسمين ليختطف منها زهرة، وبذات المقص الصغير الذى يضعه فى جيبه يقطع زهرتى فل، ثم يمسح كرسيا من البلل بفوطة مطوية بعناية ويجلس عليه يفتح المصحف، ويضع فيه زهرات الفل والياسمين، ويبدأ فى التلاوة. هذه الصورة الجميلة والجليلة هى الصورة الأخيرة التى نترك عليها هذا الأب العظيم الذى نراه فى شيخوخته رأى العيان فى صورته المواجهة لكلمات هذا المشهد الأخير. فنترك هذا الجمال والجلال لنقلب الصفحة، فلا نرى إلا إبراهيم عيسى وزوجه مع ولديه أمام معابد الأقصر كأنه حريص على أن يصل عائلته الصغيرة بأمجاد أسلافهم العظيمة التى ينحدر منها هذا الأب بشعره الأشيب وابتسامته الراضية عن الحياة والأحياء وعن العالم الجميل الذى صنعه لأسرته بعرقه وكده اللذين يبذلهما كل المصريين مثله من الذين ينتمون إلى طبقته.
أما الأم الحنون المريضة بالسكرى فما أكثر المشاهد الحانية التى نراها فيها مع ابنها! ولعل أرق هذه المشاهد وأجملها المشهد الذى نرى فيه إبراهيم فى الحضانة، صغيرا منكمشا فى اليوم الأول له مع أبلة نور، وهذه الوجوه الغريبة عن عائلته منذ أن تركته أمه مبتسمة مشجعة له فى يومه الأول فى الحضانة، فظل صامتا عصيا على كل محاولات أبلة نور لإخراجه من كهفه، إلى أن مر الوقت وظل يحدق فى نافذة مفتوحة على الممر المؤدى إلى باب الحديقة الرئيسى منتظرا عودة أمه، وظل ينتظر طويلا إلى أن عادت الأم. وما زال ظهورها وراء الشباك يعبر أمام شاشة قلبه إلى اليوم. ولم تكن قد ارتدت الحجاب بعد. وكان وجهها الأبيض بملامح شباب هدى سلطان وشعرها الأسود مصفوفا كما تبدو نجمات السينما فى أفلام الستينيات، وتعلق حقيبتها على ذراعها وترتدى تاييرا أزرق بنقاط بيضاء، فهب الابن من مقعده واتجه إليها، وهى تقف أمام الباب تلتقطه مبتسمة، تنحنى وتقبله وتسأله: انبسطت؟!. ويأتى التعليق: " وهل ينبسط أحد حين تغيب عنه أمه أبدا؟ كأننى لم أبرح هذا الكرسى كل هذه السنين". ومن هذه المشاهد الرقيقة مشهد الأم التى كانت مريضة نائمة على سريرها فى العناية المركزة بالقصر العينى، فيخاف الابن أن يوقظها وقد أعياها الأرق والقلق ووهن الوحدة ووحشة المستشفيات، ففتح أصابع كفها المقبوضة وترك فيها قلمه، وعندما مضى إليها فى الصباح، قالت مبتسمة: "عرفت إنك جيت إمبارح بالليل". هذه المشاهد الحانية الدالة على نشأة إبراهيم وحظه الحسن الذى أتاح له والدا حنونا متعلما وأما حنونا متعلمة بالقدر الذى جعلها أما صالحة، ثم بقية الرحلة الحياتية التى قضاها إبراهيم قبل أن يتخرج فى جامعة القاهرة حيث وجد ملاذه فى مكتبتها التى جعلت منه بشيرا آخر للتقدم وداعيا يقظا من دعاة التنوير والاستنارة، ومحاربا شجاعا فى مواجهة تيارات الإظلام والتخلف والفساد فى آن. ولا يفارق إبراهيم خفة ظله فى هذا المشهد الذى تشكو إليه الأم من أن جارا لها فى العناية المركزة، يزعجها بالضجيج الذى يسببه، فيذهب إليه إبراهيم مستطلعا، فيرى المريض يمسك عدة كور صغيرة ملونة ويرميها فى الهواء، ثم يلتقطها واحدة بعد أخرى باحتراف، سألته: «بتشتغل إيه؟». أجاب: "حاوى فى السيرك، ضحكت وقلت لأمى: ده بيشتغل حاوى يا ماما، ساعتها ضحكت، كلنا ضعاف أمام الحواة". ومثل هذه الصور عن الأب والأم تكشف لنا عن الطبيعة النبيلة لأخلاق الطبقة المتوسطة التى نشأ عليها إبراهيم، فتذكر نماذج الطبقة المتوسطة التى تحتشد بها روايات نجيب محفوظ، خصوصا ما تنطوى عليه من بر بالأبناء والتضحية من أجلهم، وتحول الأم إلى شخصية رئيسية فى حياة الأسرة كأنها الوتد الذى تستند عليه الأسرة ويعتمد عليه تماسكها. وقد قرأ إبراهيم روايات نجيب محفوظ، ولكنه كان مفتونا بيوسف إدريس، فكتب مثله القصة القصيرة التى حصل فيها على جائزة فى مسابقة، عاد بعدها إلى غرفته فى المدينة الجامعية مرفوع الرأس، كما يحكى فى أحد المشاهد فرحا بما كان أول الغيث الذى تجلى فى رواياته العديدة التى ضمنت له مكانا متميزا بين كتاب الرواية فى جيله. (وللحديث بقية).