سليمان جودة
ما يحتاجه البيت.. والجامع
قرأت تصريحًا للأستاذ باسل السيسى، رئيس لجنة السياحة الدينية، يقول فيه، إن فاتورة العمرة بالنسبة للمصريين، عن الموسم الحالى، تصل إلى مليار دولار، وأننا أنفقنا العام الماضى 2٫5 مليار جنيه على الحج والعمرة معًا، وأن نصيب الحج من هذه الفاتورة كان 1٫3 مليار جنيه!
من جانبى شعرت بأن المليار دولار فيها مبالغة، ويبدو أن «المصرى اليوم» التى نشرت الخبر، قد ساورها الشعور نفسه، فقالت وهى تذكر الرقم، إنه على عهدة رئيس اللجنة.
وسواء كان الرقم حقيقيًا، أو مبالغًا فيه، فهو يفتح ملفًا ينفتح فى مثل هذا التوقيت، من كل عام، دون أن نغلقه بما يرضى الله تعالى، ويرضى ضمائرنا، فنظل هكذا نعود إليه كل سنة دون أمل فيما يظهر، فى أن نصل إلى شىء فيه!
الملف هو حجم إنفاق المصريين على رحلات الحج والعمرة، وهو بشكل أدق، يتمثل فى تمسك كثيرين بيننا بأن يؤدوا فريضة الحج مرة، ومرتين، وثلاثًا، وربما عشر مرات، وكذلك الحال مع العمرة، بل ربما تكون الحال معها أشد، لأنك لابد قد سمعت كثيرًا، عن الذين يتباهون فى المحافل العامة، بأنهم قد حجوا كذا مرة، واعتمروا أكثر من كذا مرة، وأنهم يذهبون للحج فى كل موسم وللعمرة طوال السنة، دون أن يفوتوا أى فرصة تلوح لهم فى هذا الاتجاه!
لا اعتراض عندى، ولاعند غيرى بالطبع، على أن يفعل كل إنسان ما يشاء بفلوسه، ما دامت من مصادر مشروعة، وما دام صاحبها لايضر أحدًا بها، وهو ينفقها، ولكن اعتراضى هو على إصرار أعداد كبيرة منا، على أن تظل تحج، وتظل تعتمر، وهى تعرف أن فى مجتمعنا بؤساء لا عدد لهم، يمكن لبؤسهم أن يخف، ولو قليلًا، لو أن أموال الحج المتكرر، والعمرة المتكررة، ذهبت إليهم!
نعرف جميعًا، بل نحفظ، ذلك الحديث الشهير عن الرسول «عليه الصلاة والسلام»، الذى كان يقول فيه ما معناه أنه يخشى أن يقطع لمن جاء يسأله، عما إذا كان الحج واجبًا فى كل عام أنه كذلك، فيصبح تأكيده هنا ملزمًا لكل مسلم.. وقد قال «عليه الصلاة والسلام» بعد إلحاح السائل: لو قلتها لوجبت.. وقد كان السائل يسأل الرسول: أنحج فى كل سنة؟! والرسول يهرب من الإجابة، بلطف، حتى وجد نفسه مضطرًا فى النهاية إلى أن يقول: لو قلتها لوجبت.. والمعنى أنه لم يقلها، وإنما أراد أن يصرف السائل بإحسان، وأن يجعله يستوعب مبدأ أن الدين رفق، وأن مسلمين كثيرين هم الذين يُصعّبون أموره على أنفسهم، وعلى غيرهم!
واعتقادى، أن المثل العامى الشهير، الذى يقول «اللى يحتاجه البيت يحرم على الجامع» ليس بعيدًا، من حيث معناه، عن المعنى البعيد الذى أراده الرسول الكريم، وهو يقول: لو قلتها لوجبت!
والمعنى المقصود فى هذا المثل العامى، ليس طبعًا أن نتوقف عن الإنفاق على بيوت الله، بما تحتاجه، ولا أن نمسك أيدينا عنها، ولا يمتنع عن أن نجعلها على أفضل ما تكون، ولكن المعنى أنك إذا وجدت نفسك مُخيرًا، بين أن تعتمر لثانى مرة، مثلًا، وبين أن تساعد إنسانًا تعيسًا فى أن يكون عنده بيت يؤويه، فالثانية بالقطع أفضل.. وأنك إذا وجدت نفسك مُخيرًا أيضًا، بين أن تحج للمرة الثالثة، مثلًا، وبين أن ترسل أبناء إنسان فقير إلى المدارس، ليتعلموا، فالثانية بالتأكيد أحسن لك، ولمجتمعك، ولابد أنها أحسن عند الله تعالى، بالدرجة نفسها.. وهكذا.. وهكذا.. إلى آخر الأمثلة التى يمكن أن نضربها فى هذا السياق فتكون فى مكانها الصحيح!
أحيانًا كثيرة أسأل نفسى: لو أن غالبية الذين حجوا واعتمروا قد قرروا التوقف عن الذهاب مرة أخرى، ووجهوا ما كان مخصصًا لرحلاتهم هذه، إلى صندوق يتبنى بناء مدارس ومستشفيات فى المحافظات، هل يمكن بعد عدد من السنوات، طال أم قصر، أن نسمع عن مدرسة فى الجيزة يتكوم فى الفصل الواحد فيها 120 تلميذًا، بعضهم فوق بعض، أو أن نسمع أن مريضًا قد مات على الرصيف، لأن علاجه ليس متاحًا فى المستشفى الحكومى؟!
كل قادر بيننا مدعو إلى أن يعمل بالمثل الشعبى، الذى نردده، ولا نطبقه، ومدعو كذلك إلى أن يلتفت إلى أننا لاتنقصنا الجوامع والمساجد، ولكن تنقصنا المدارس والمستشفيات، وأنها لها الأولوية بأى مقياس.